لم ولن تغيب عن مخيلتي أمّي الجالسة أرضاً أمام الفرن وهي تبدع في صنع الخبز ونحن حولها نتلاقف "خبز الطابون" طازجاً بكل سخونته..
لن أنسى كيف كانت تطردنا من حولها لأننا نهجم على الرغيف القادم من النار إلى أيدينا وحلوقنا قبل أن يستقر على المفرش الذي على الأرض..! لن أنسى عصبيتها تلك اللحظة: وَلْ يا أولاد أكلتوا الخبزات وما خليتوا شي..! كنّا نهرب من وجهها ولكنني كنتُ أتسلل عن إخوتي وأعود لها بحجة مساعدتها: يُمّة خليني أساعدك وأفرد عنك الخبز على المفرش..! وهكذا أخدعها كلّما أستطيع لذلك سبيلاً من أجل الخبز الصانع فيّ الآن ولداً يناضل من أجل الخبز..!
هذا كلّه كان قبل أن تحترف أُمّي ذات المدرقة السوداء التلفون الذكي؛ قبل أن تصبح الحنونة حرّيفة على اليوتيوب فهجرت معه الفرن الذي تآكل مع الأيام بفعل العوامل الطبيعيّة وانتهاء عمره الافتراضي..!
المفاجأة أن أمّي حنّت للعجين والخبيز؛ فاشترت فرناً جديداً؛ لكن المفاجأة الأكبر أن أبي يرفض أن تخبز أمّي من جديد ويرفض احضار الطحين وحجته: ما رح يطلع معها زي أوّل.. نسيت كيف تعجن وتخبز..! حتى أنه يرفض رفضاً قاطعاً أن تجرّب أمّي لمرة واحدة فقط من باب استعادة ما كان..! وما زالت محاولات اقناع أبي جارية ولا أعلم هل ستعود أمّي وتعود معها الأمّة (إلى فرنها).. أم ستبقى الأمّة تأكل من فرن غيرها وبشروط غيرها التي تتبدّل كل لحظة..؟! ويبقى فرن أمّي الجديد شاهداً على أُمّة لا تأكل مما تصنع..؟!