ما يمكن قوله بكل صراحة، ودون أن يتحسس أحد أنه لو كانت هناك جهات اجنبية متفرغة فقط لتحليل الرأي العام الأردني عبر وسائل مختلفة، من بينها السوشيال ميديا، لخرجت بنتائج لا يصدقها احد، وهي نتائج تؤشر على الوضع العام على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي.
بين ايدينا، آخر القصص، مثلا، ودعونا نتحدث عن القصة الاخيرة لاستيراد اللحوم، من خارج الأردن، وكيف ان التوقعات كانت تتحدث عن سعر منخفض في البداية، والذي يقرأ آلاف التعليقات المهللة المرحبة، يكتشف ان الكل يتحدث عن شبه حالة حرمان على مستوى الغذاء، وعدم قدرة على شراء ما تحب العائلة، والرأي العام انصب كله لصالح استيراد هذه اللحوم، وكأن اللحم هو قضيتنا الاولى والاخيرة، بما يعكس فاقة اقتصادية، ونقصا في الغذاء، ووجود احتياجات في البيوت، وهو مشهد مؤلم وموجع يؤشر على حجم الفقر، في بيوت الأردنيين، جميعا، بحيث بات سعر اللحم الاقل كلفة هو قضيتهم الاولى في أسبوع لا ينساه احد.
هل تصدقون يا سادة ياكرام ان اغلب شعب الأردن بقي على مدى اسبوع مشغولا فقط بقصة سعر اللحم، ثم الكلام عن ارتفاعه، ثم اللعن على التجار والمستوردين والمحتكرين، ثم المقارنات بين اسعار اللحم المستورد والبلدي، وكأننا وسط معركة تؤشر على نقص حاد على الصعيد الغذائي.
هذا لا يعني اننا امام شعب جائع، يعني ببساطة ان هناك حرمانا كبيرا، وحتى الذي يحلل التعليقات من حيث مضمونها يسمع عبارات لأول مرة، من الكلام عن ان صاحبه لا يعرف سوى الدجاج، وآخر يتمنى امنية ان يتذوق لحما بلديا، او شبه بلدي، وهكذا تم اعادة انتاج الأردن، بحيث باتت قصته على مدى الاسبوع، ليس التعديلات على قوانين المنظومة السياسية، ولا نسب الفقر والبطالة، ولا محاربة الفساد، ولا غير ذلك بل انشدت كل الاعصاب والافئدة نحو الخراف القادمة عبر الحدود الباردة، فهذه هي قضيتنا، التي تؤشر على حالة الارهاق التي اصابت الناس، وعلى مدى شعورهم بالغبن والحرمان، في بيوتهم، بسبب قلة دخولهم، واوضاعهم العامة.
اسبوع كامل والأردن مشغولة بما يمكن وصفه أسبوع أبو لية، فالوزير يخرج ليصرح عن النية بقص لية الخاروف، وآخرون يسألون لماذا لا تبقى اللية، وفريق ثالث يسأل عن الفرق في اللية وعدم وجودها، ورابع يقول ان المستورد الجديد لا يختلف عن اي خاروف مستورد.
القصة هنا ليس على محمل من يهين الناس، فما عاش من يهين الناس، لكنها تشي بدلالات كبيرة، حول المجتمع المرهق، الذي تعب وتنازل عن كل عناوينه الكبرى ليتم ايصاله فقط واشغاله بقصة الخاروف المستورد، وان كان بلية او دون لية، ثم التراشقات حول القصة، ودخول وسائل الاعلام عليها، وانهمار تعليقات الوسائل التواصل الاجتماعي، على خلفية الكلام تارة عن مؤامرة، وتارة عن السعر النهائي الذي قفز من اربعة الى ستة واربعين قرشا، الى آخر التفاصيل.
لو كانت هناك جهات اجنبية تقرأ الداخل الأردني، وتحلل توجهاته وطبيعته، لاكتشفت بكل بساطة ان المجتمع مرهق جدا، ويعاني اقتصاديا، ينشغل كثيرون منه باللحم المستورد، ومتى سيصل، مجتمع تقسمه مباراة كرة قدم، مجتمع اختلطت لديه العناوين، من مجتمع يريد تحديث بلاده، الى مجتمع لا يقوى على دفع فاتورة الكهرباء، وكأني به مشتت جدا من حيث توجهاته، ويمكن التلاعب ببوصلته عبر اي قضية مثارة، بشكل مستحدث في المختبرات.
لم يكن الغذاء هماً من هموم الأردنيين، ذات يوم، لكننا اليوم امام مجتمع مهموم بأسعار الغذاء، اسعار الدواء، اسعار العلاج، كلف التعليم، اسعار الوقود، مجتمع متعب حقا، بكل ملفات بلاده من الفساد، الى مشاكل التعيينات، والادارة العامة، حيث تسود الاشاعة، والكراهية، والشكوك، ويتم ترك هذا البلد، لكل هذه التغيرات باعتبارها امرا عاديا جدا.
الاسبوع الماضي، كان خطيرا جدا، من حيث الدلالات لمن يريد ان يستبصر الأردن الجديد، هذا اذا كان لدينا من يريد ان يستبصر اصلا، ويسأل عن الأردن الجديد الذي نراه اليوم؟.
إنها عاصفة الفقر التي غبرت بيوت الأردنيين….أليس كذلك؟.
الغد