استحوَذَت منذ عامين على تفكيري قصص تهريب نُطف الأسرى، وهي سابقة لم تحدث في التاريخ البشري، سجلها الفلسطيني في سجون الاحتلال. أخذتُ أبحث عن أول نطفة، وأول مولود تم تهريبه من خلف قضبان السجون المعتمة، وأعين سجان يحرس الظلمات، ليرى المولود الحياة في حضن أمه، دون أن يحظى بلمسة حنان من أبيه.
راقت لي فكرة «النطفة السفيرة»، و»سفيرة الحرية»، تُهرَّب من ضيق سجون إلى رحاب أم حنون، وإلى روح تجمع الغائب بالحاضر، والاستبداد بالحرية، والظلمة بالنور، والحرب بالسلام، والموت بالحياة، والأسير بالمُحرَّر. كيف ينتصر الفلسطيني لمعاني الخصوبة والعطاء والرحمة والحب والضياء والحرية، حتى وهو يعيش في غياهب ظلم وظلام.
راقت لي فكرة استحداث أدوات جديدة للنضال بأساليب فتاكة ساحرة خلاقة، تُرسِل رسائل سامية إلى كل بقاع الأرض، وتقول نعم للحياة، وكفى ظلماً للإنسان الفلسطيني، كما تقول للمحتل: هزَمتكَ النطفة، هزمتك نطفة في ولاعة سجائر، أو في غلاف سولوفاني لحبة شوكولاته، أو حبة تمر، أو كبسولة دواء، هزمتك نطف أسيرك، وأرواح تبحث عن الحرية تتسلل من خلف القضبان. خاض المحتل حرباً شعواء عليها، والحرب على النطف مستحيلة، فالإخصاب الفلسطيني لا يمكن أن يتوقف. لا يمكن قطع نسل الفلسطيني حتى لو غيبه الموت، لأنه سيترك وراءه نطفة تقول: لا للموت، وألف نعم لحياة الفلسطيني.
سنوات السجن التي يحكم فيها الفلسطيني، تتجاوز عمر كبار المعمرين؛ مؤبدات تصل بمجموعها إلى مئات السنين. أحكام غير مسبوقة في تاريخ البشرية، وعذابات تجاوزت ما حدث لليهود في معسكرات النازية، والمحتل لا يعترف بطفل النطفة، يرفض تسجيله، واستخراج شهادة ميلاد له. طفل النطف لا يحتاج إلى شهادة ميلاد، لأنه ولد بالفعل، ورأى النور رغم سطوة جلاد أبيه، وأضحى سفيراً للحياة اعترف به الدين، كما استقبلته في أحضانها الدنيا، وهو يحمل أسماء متعددة: دانيال، ومحمد، وإيمان، ومهند، ومسك، وماسة، وغيرها من أرواح محلقة تجاوزت المائة، وستشكل جيلاً جديداً من أبناء شعب لا يحب الظل، جيل لم يأت من الصُّدَف، ولا من الترف، وإنما من رحم معاناة، ومن شغف انعتاق من قهر المحتل، ومن جور الصلف.
كيف استطاع الفلسطيني أن يبهر الدنيا بنطفِه، وأن تقود نطفة ثورة، ثورة بيضاء على الموت الأسود، وتحقق النصر، النصر للحياة، فالنطف لا تحمل مسدساً، ولا ترتكب فعل القتل. تخترق القضبان. تسكُن الأرحام، ثم تحبو، ويصبح للنطفة رجلين، ورأس، وقدمين، ويصبح لها صوت وسوط يخشاها السجان. كيف استطاعت المرأة الفلسطينية أن تُطمئِن زوجها على مستقبله، ومستقبل وطنه، وعلى حبهما، وصلابة ارتباطهما، وهي تتحسس بيديها نبض حياة «سعادة سفير» في رحمها، أو نبض سفيرة،، وفي المقابل: كيف يحارب المحتل نطفة، أو طفلة في رحم أمها. يا له من احتلال تافه.
قلت أن الفكرة احتلتني، وسيطرت على تفكيري، فسارعت إلى الاتصال بعدد من الأصدقاء للاستئناس بآرائهم، والاستعانة بما يمتلكونه من معلومات بهذا الشأن، وكان من بين أول الأصدقاء الذين تواصلت معهم في العام الماضي الكاتب الكبير الأستاذ رشاد أبو شاور، ومؤرخ حيفا الباحث القدير والصديق العزيز الدكتور جوني منصور، وهو الذي لا يتوانى عن تقديم أي عون يتصل بألم فلسطيني لا يتوقف، وقد أرشدني إلى اسم باحثة فلسطينية ناشطة وقريبة من قصص نطف الأسرى، تواصلت معها مراراً، وكنت بدأت بكتابة رواية جديدة حول نطف الحرية، ثم قررت التوقف عن الكتابة بعد أسابيع من البدء، وتأجيل المشروع، لسبب واحد، وواحد فقط لا غيره، وهو الخوف من الإساءة للنطف، والخوف على النطف، والخوف من المساس بكرامة الأسرى وسمعة أسرهم، والخوف من الفشل في تعظيم هذه البطولة الأسطورة التي ترقى إلى مصاف سرة السماء.
توقفت عن الكتابة بعد أن وقعت في حيرة، أجّلت المشروع خوفاً على «أميرة»، النطفة الأميرة، والنطفة الأسيرة، وقصص البطولة الأثيرة، وخوفاً على النطفة الأولى، والنطفة الأخيرة، وعلى «الذخيرة»، وعلى سيرة الأسرى، خيرة الخيرة، وأشرف من في العشيرة.
الدستور