تتواصل المشاورات السرية على نار هادئة بين عمان وحليفتها الإستراتيجية واشنطن على أمل كسر فيتو الأخيرة الذي يحول دون عقد اتفاق تعاون نووي على غرار اتفاقات مماثلة مع تسع عواصم نووية في مقدمتها باريس, أوتاوا, سول, لندن, موسكو وبكين.
ويسعى الأردن بالدبلوماسية الهادئة إلى تجاوز النفق المسدود الذي اصطدمت به المفاوضات التقنية الدائرة منذ عامين بسبب إصرار المملكة على حقّها في تخصيب اليورانيوم, الذي تمتلك منه احتياطات ضخمة تضعها في المركز 11 عالميا.
ويأمل البلدان في التوصل إلى اتفاق خلال الثلاثة اشهر المقبلة. عمان تريد ضمان حقوقها في امتلاك الطاقة النووية مع مراعاة هواجس واشنطن, ومن ورائها تل أبيب, بشأن الانتشار النووي في المنطقة. ويفضّل المسؤولون الأردنيون والأمريكيون عدم وضع جدول زمني لإنهاء المفاوضات مع التصميم على إيصالها إلى نهايات إيجابية.
يبحث المفاوضون عن "صيغة خلاّقة" بعد أن توافقوا حول غالبية بنود مسودة اتفاق باستثناء إصرار واشنطن على منع أي دولة في الشرق الأوسط من تخصيب اليورانيوم, إعادة تشغيل أو تبديل العناصر النووية وإنتاج وقود نووي. تعتمد أمريكا مرجعا لهذه اللاءات الاتفاق الذي أبرمته مع أبو ظبي قبل اشهر.
ما يتسرب من أجواء المفاوضات يفيد بأن واشنطن لا تريد كسر ذلك الشرط حتى يوفر حجّة لإيران أو أي دولة "مارقة" في المنطقة, وفق القاموس الأميركي, لأن تطوير قنبلة نووية من خلال برنامج نووي سلمي. تعتقد أمريكا أن صناعة هكذا قنبلة سيهدّد أمن إسرائيل واستقرارها, علما أنها تمتلك 200 رأس نووية غير معلنة منذ أنشأت برنامجها النووي قبل ستة عقود. وقد يساعد المفادل النووي أيضا ما تعرف بدول "محور الشر" على امتلاك أسلحة غير تقليدية تساعدها على بسط نفوذها الإقليمي, بحسب الموقف الرسمي الأمريكي.
لكن عمان تطلب معاملة مختلفة. فلكل قاعدة شواذ. وتؤكد أنها ستتمسك بهذا الحق حتى ولو لم تستعمله في المرحلة الحالية أو المستقبلية, سيما أن المسؤولين يصرّون على أنهم سيتعاقدون مع شركات عالمية من خلال طرح عطاءات لإنجاز خدمات تخصيب الوقود في الخارج باستخدام خامات اليورانيوم الأردني. لكنها لا تريد توقيع اتفاق يحظر عليها إلى الأبد تخصيب اليورانيوم وتصديره, باعتباره أمل القيادة والشعب لكسر الاعتماد على المساعدات والمنح الخارجية, التي وسمت هذه الدولة الفقيرة منذ نشأتها عام .1921
موقف الأردن يتماهى مع ما تتمسك به الكويت ودول عربية أخرى منخرطة في مفاوضات مماثلة مع واشنطن.
ويؤكد مسؤولون أردنيون أن الاختلاف مع واشنطن لن يفسد برنامج "وعد المستقبل" المأمول أن يحول عمان إلى مصدر للطاقة الكهربائية بحلول عام .2030 في الأثناء تتحرك الحكومة لتنفيذ اتفاقات تعاون نووي متعددة الأبعاد مع ثماني دول وتتحدث مع دول أخرى لتوقيع اتفاقات مشابهة بما فيها اسبانيا, اليابان والبرازيل. وتعكف أيضا على بناء كوادر وطنية لرفد برنامجها النووي المدني المتماشي مع معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية الموقعة عمان عليها. كذلك تعمل بشفافية وضمن مواصفات هيئة الطاقة الذرية (فيينا) التي أيدت دخول الأردن إلى النادي النووي واعدة بتقديم المساعدة لإنجاح المشروع.
فالمملكة الخالية من النفط, تمتلك -بعكس الإمارات- خامات يورانيوم بكميات وفيرة. وهي عاجزة عن توفير طاقة رخيصة لتوليد الكهرباء وتحلية المياه.
لكن واشنطن تصر على أن حق تخصيب اليورانيوم بمثابة سيف ذي حدين في منطقة سياسية غير مستقرة: من جهة يوفر طاقة بديلة, ومن جهة أخرى إمكانية تخصيب وقود لتصنيع طاقة نووية للإغراض العسكرية. من بين الضمانات التي تطرحها عمان رقابة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية لأي دولة.
في عرف روّاد الطاقة النووية, كلما تقلّص عدد منشآت تخصيب اليورانيوم تراجع عدد البلدان التي قد تصل إلى تكنولوجيا تصنيع القنبلة النووية.
رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس هوارد بيرمان الذي لعب دورا بارزا في تنقيح بنود اتفاقية التعاون النووي بين أمريكا والإمارات يصر على أن ما قامت به أبو ظبي من "تخلٍ طوعي" عن حق التخصيب يوفر نموذجا جيدا للمنطقة يجب الاحتذاء به. وبينما يشير إلى خطط أممية لتأسيس بنك دولي لتوفير الوقود النووي للاستخدامات السلمية لكل من يطلبه من دون الحاجة لوجود منشآت تخصيب داخل هذه البلاد, يؤكد بيرمان أن "الأردن بالتأكيد شريك حيوي لأمريكا" وانه لا يخشى من وقوعه تحت سيطرة قوى التشدد. لكنه يرى في المقابل أنه "كلما زاد عدد الدول التي تتنازل طواعية عن حق التخصيب ستكون المنطقة أكثر أمانا, بخاصة أن هناك دولا ليس من الصعوبة أن تقع في يد المتشددين".
واشنطن تنفي وجود مصالح تجارية وراء تشددها في بند حق التخصيب. فلا توجد أي شركة أمريكية تعمل حاليا في عمليات استكشاف اليورانيوم الجارية بخلاف أنشطة شركات فرنسية, بريطانية - استرالية والصين الوطنية.
هذا إذا هو السقف الأمريكي. ولن يستطيع الأردن اختراقه إلا إذا حصلت معجزة إلهية أو تم تبادل تفاهمات خارج إطار الاتفاقية الثنائية تساعد على حفظ ماء وجه البلدين وتعطي ضمانات أردنية بتخصيب اليورانيوم خارج الحدود لطي الخلاف حول مفهوم نظري. ربما كانت الأمور ستختلف لو حل الأردن عقدة التفاوض حول حق التخصيب بعد أن لمسها في خريف 2008 وتوصل إلى أول اتفاق بين أمريكا ودولة شرق أوسطية, ليغدو ربما معيارا أو مرجعا لأي اتفاقات مقبلة بين الولايات المتحدة ودول المنطقة. لكن سابقة الإمارات حكمت الجميع ببنودها. لكن هذه ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن خطط إستراتيجية يلتقطها غيرنا في المنطقة ويطبقّها قبلنا.
اليوم خرجت المفاوضات الفنية المسدودة من يد رئيس هيئة الطاقة الذرية الأردنية الدكتور خالد طوقان, الذي يتعامل مع الموضوع بموقف متشدد وبنظرة علمية أحادية لحماية السيادة الوطنية. وهي تتدحرج صوب مرمى ساسة يتقنون فنون الدبلوماسية التي تعني عمليا "فن المستحيل" مع تقديم تنازلات ضرورية للالتقاء على أرضية مشتركة تفضي إلى اتفاق ولو مسّت السيادة قليلا. يرفض طوقان, بإيعاز من الحكومة والمراجع العليا, الإدلاء بأي تصريحات صحافية قد تحول الموضوع إلى قضية رأي عام تفتح الباب أمام المزايدات بعد أن أعطي مقابلة صحافية مطلع الشهر تحدث فيها عن التباين في وجهات النظر الأردنية والأمريكية.
ما يضيق خيارات ساستنا ضمان المحافظة على دعم واشنطن المالي لخزينة مثقلة بالديون ومساندتها لعملية السلام المتعثرة منذ سنوات بسبب التعنت الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني. التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الذي يمد عمان بالدعم الاقتصادي, المالي, العسكري والسياسي يظل خطا أحمر في إستراتيجية الدولة العليا, وكذلك متطلبات المحافظة على معاهدة سلام مع إسرائيل, التي تعمل من فوق وتحت الطاولة لضرب حلم الأردن النووي.
وقد نسمع من الآن فصاعدا خطابا رسميا جديدا لا يتوقف كثيرا عند حق تخصيب اليورانيوم محليا, تسانده مجموعات ضغط بيئية تخشى من الآثار البيئية للتخصيب وضرورة توفير كميات كبيرة من المياه ضمن دورة مغلقة في أي مفاعل نووي في بلد يصنف رابعا على سلم الفقر المائي. وقد تصبح مسألة ارتفاع تكلفة التخصيب أو نقص الخبرة, مبررات أخرى لتجاوز حق التخصيب.
من جهته يصر د. طوقان في كل جولات التفاوض التقني على رفض أي شروط أمريكية قد تضرب استقلالية البرنامج النووي السلمي المفترض أن يحوّل البلد من مستورد إلى مصدّر للطاقة, بعيدا عن التقلبات السياسية العالمية مع إمكانية إنتاج طاقة بسعر منخفض يدعم النمو الاقتصادي.
وهو على حق. ففي عام 2007 قفزت فاتورة الطاقة إلى 2.3 مليار دولار, أي ربع مستوردات المملكة وخمس الناتج المحلي الاجمالي. ويأمل الأردن في استغلال مخزونه المقدر ب¯ 65 ألف طن يورانيوم وتحقيق الهدف الخاص بتوليد 30 % من احتياجاته من الطاقة عبر النووي بحلول عام .2030 ويؤكد طوقان أن أن أيا من الدول التسع التي وقع الأردن معها اتفاقيات تعاون نووي لم تشترط أن تتنازل عن حقه في تخصيب اليورانيوم محليا.
بين الموقف الفني المتشدد مقابل السياسي الواقعي البراغماتي محليا وموقف أمريكا مغلق النهايات, يتساءل مراقبون عن مستقبل البرنامج النووي الأردني ونهايات توليد الطاقة البديلة بثروات محلية.
الرواية الرسمية الأمريكية تقول إن واشنطن لا تقف ضد برنامج الأردن النووي السلمي وإن غياب اتفاقية تعاون ثنائي لم ولن يمنع الأردن من المضي قدما في تطوير برنامجه وفي التوصل إلى اتفاقات أخرى والقيام بخطوات الاستكشاف الأولية. كما أن واشنطن, بعكس التقارير الصحافية الإسرائيلية التي أشارت إلى إمكانية وقف برنامج المساعدات المالية من باب لي الذراع, أعادت تأكيد التزامها ببرنامج الدعم قبل أيام على لسان الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية.
الواضح إذا أن واشنطن وعمان لا تريدان تحميل موضوع الخلاف حول حق تخصيب اليورانيوم أكثر مما يحتمل. وعمان لا تريد أن يتحول إلى قضية لتعبئة الرأي العام المناوئ أصلا لواشنطن وتل أبيب.
لكن غالبية الساسة والحزبيين يأملون في بقاء الإصرار الأردني على حق تخصيب اليورانيوم محليا. فهناك خوف من محاولات إسرائيلية لفرض هيمنتها على المنطقة وبسط يدها على مصادر الطاقة, بدعم من الولايات المتحدة التي تنصاع لرغباتها, وذلك بهدف إبقاء الأردن فقيرا لا يمتلك قراره الاقتصادي للتصدي لمشاريع استحقاقات التسوية السلمية.
إنجاح المشروع النووي وضمان حقنا في تخصيب اليورانيوم, حتى ولو لم ننجزه الآن يشكل معيارا بأن الأردن قادر على انتهاج سياسة مستقلة قادرة على حماية الأمن الوطني, وإن لم تكن تل أبيب ومن ورائها واشنطن راضيتان عن ذلك. فالوهم, برأي ساسة, هو القبول بشروط أمريكية-إسرائيلية كتلك التي مورست على الإمارات العربية. وإذا قبل الأردن خسارة هذه المعركة, سيسمح بوضع سابقة لملفات حيوية أخرى قد نخسرها مستقبلا.
لذلك على عمان إطلاق حملة إعلامية سياسية دولية تظهر للعالم كيف تعامل واحدة من أكثر حلفاء واشنطن اعتدالا في المنطقة وأن تلوح بخيارات سياسية أخرى من بينها البحث عن حلفاء آخرين غير أمريكا وإسرائيل. قبل ذلك خسر الأردن معركة حماية المقدسات الإسلامية في القدس الشريف. والصورة قبل وبعد اتفاقية وادي عربة لم تتغير كثيرا. فإسرائيل تريد أن يظل جارها الشرقي ضعيفا - سياسيا, عسكريا, اقتصاديا ونوويا لفرض حلولها المستقبلية.
ذلك لن يخدم بالتأكيد أمن المنطقة واستقرارها? فهل موقف أمريكا المتشدد مكافأة لحليف استراتيجي ما يزال يلعب دورا كبيرا في استقرار الإقليم? الأردن يجب أن ينال أفضل الشروط فيما يتعلق بخياره النووي. وعليه أن ينتصر في معركة الاتفاقية النووية مع أمريكا. فالخطة ا و ب هي النجاح مع أمريكا; والخطة ج هي الطلاق معها والبحث عن حلفاء جدد.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
العرب اليوم