لم أشعر بالسعادة لتصادم مخلوقات الله ببعضها، إلا سعادتي بتصادم الغيوم، ولم أفرح ببكاء مخلوق قدر فرحتي ببكاء السماء. دموعها دموع فرح ورضا. لم أحزن يوماً على بكاء الغيم، حتى لو انهمرت دموعي. الحزن الذي يبعثه المطر، يولّد في نفسي سعادة، يعوضني عن قسوة الغياب. يعيدني إلى حضن أمي، رفقة جدّي وأنا أجلس بجانبه على أطراف نافذة تطل على بساتينه في الوادي. «طبلية» جدتي التي كنا نتناول عليها السحور في رمضان، أو تحلُّقنا في صغرنا حول أبينا وهو يعد «حلاوة السميد» بالجبن.
أستنشق مع هطول المطر عبق الأرض وأعشابها، تلك الأرض التي يستشهد الأبطال على أديمها، حيث تغتسل قبة الصخرة المشرفة من ماء الله العذب الصافي، ويعم الخير على بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، وتصبح الغيمة فوق القدس، هي نفس الغيمة التي تغطي سماء عمان، وينتشر ضباب عند الفجر في الكرك والخليل، لا يقشعه إلا تساقط المطر. يتظلل أهل الضفتين بنفس الغيمة، لأن الله أراد أن يتنزّل عليهم بالخير معاً. المطر يوحدنا، كما دماء الشهداء، وكما سنابل الذرة التي لم يُطلق عليها «المُطْر» في معاجم اللغة عبثاً، فلولا المَطَر لما كانت المُطْر.
أستعيد مشهد السيول في الشتاء وهي تلون الماء في الشوارع، كأن رساماً قد احتفل بموسم تساقط المطر، بإلقاء ألوانه المائية، للمساهمة في هذا المهرجان الإلهي المبهر.
لا شيء أدهشني منذ طفولتي، وما زال يدهشني أكثر من المطر. حبة المطر بنقائها وصفائها. صوت المطر بموسيقاه العذبة. صوت المزاريب إذا انهمر. ومشهد تمايل الشجر، وتغير لون الحجر. لا شيء يقربني من الله أكثر من المطر. يزيد إيماني. ينعش ذاكرتي. يطلق العنان لخيالاتي. أولها التفكير في قُدرة الغيم على حمل هذا الثقل. وآخرها سعة صدر الأرض على استيعاب هذا الكم من قطرات المطر، وعلى فرحتها وهي ترتوي وقد أظماها العطش، وعلى طيور تزداد سرعتها وهي تحلق على ارتفاعات منخفضة، باحثة عن مأوى يقيها برد الشتاء، ويتيح لها كوة ترقب من خلالها مشهد تساقط المطر، فتطلُّ برأسها لتطمئن أن الحياة ما زالت بخير. طبعاً بخير، فالمطر انكشاف للضر، وزوال للهموم، وبشرى لنيل الأماني، وحلول للبركة، وغنى من فضل الله.
لا شيء يعيد لذاكرتي الربيع أكثر من المطر. السهول الخضراء، وسنابل القمح. أزهار الدحنون، والسوسنة السوداء. زهرة الغيصلان، والعرار. الأقحوان. العكّوب، وإبرة العجوز، ولا شيء يوقظ بي الرغبة لتذوق الحساء أكثر من الشتاء؛ شوربة العدس، والفريكة، ورائحة الحطب، ومواقد النار، ومدفأة البواري، و»لمّة» الأهل والأحباب، و»الهبو» المتصاعد من أنفاس الأطفال، والكسل في الخروج من تحت «اللحاف» عند الصباح.
ما أجمل ذلك الكسل، وما أجمل تلك الدقائق التي كنا نسّوف الوقت فيها مع أمهاتنا، كي نحظى بذلك النعيم الدافئ. كنت طالباً في العشرين من عمري، أفتح نوافذ البيت في الحي الجنوبي في إربد، لأنعم بمشهد حبات المطر على شجرة الليمون، وشجرة الأسكدنيا، وأشمُّ رائحة المطر، وأردد اسم الله كثيراً.
«هل تعلمين أي حزن يبعث المطر، وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع». قال السيّاب، وصدق قوله. المطر يحمل أيضاً الأحزان للفقراء والمتعبين. لا تتركوا أحبابكم وحيدون في المطر. لا تدفعوهم ليكرهوا المطر. شاركوهم بركة السماء، اطمئنوا على أحوالهم. لا تجعلوهم يشعرون بالوحدة في وطنهم. تفقدوا أحبابكم عند سقوط المطر. عندما يجود الله عليكم بنعمة المطر. تذكروا برد الشتاء، وتذكروا دفء «اللحاف» عند الصباح. احرصوا على أن لا تتركوا طفلاً ينام في البرد، ولا ينعم مثلكم بتلك النعمة عند الصباح. املأوا ذاكرته بدفء المشاعر والمحبة. ربما يحتاج أيضاً إلى صحن من الحساء. ذلك أيضاً يمكن أن يمنح قلوبكم سعادة إضافية، فوق سعادتكم بتساقط المطر.
عندما يسقط المطر، أو يهبط الثلج. عندما يأتيكم الغيث، وحّدوا الله. أغيثوا أحبابكم كما أغاثكم المغيث، حتى يكون المطر نعمة عليكم، وليسقط المطر، ويطول الليل، وتعم السكينة.
(الدستور)