رحيل أبو خليل الطحلة .. السيرة الماجدة والخلود الأنيق
د. موسى برهومة
06-12-2021 09:29 AM
رحل بيديه الخشنتين، وقلبه الطريّ الدافىء. رحل بدمعة ممزوجة بالأسى، لكنه أسلم روحَه للرضى، لأنه مشى في طريق الأمل، واقتلع الأشواك، وحارب حتى النهاية. رحم الله عُمر داوود الطحلة "أبو خليل"، وملأه بالنّور.
والرجال الذين يمكن أن يوصفوا بأنهم مثل أبي خليل، قلائل، فقد ينهمك النّاس بالمال، وتعزّ عليهم الحياة، ويملأ قلوبَهم الذعر في المواقف الصعبة، لكنّ أبانا الذي رحل أمسِ، كان زاهداً في كلّ شيء وشجاعاً.
أعطى عمر الطحلة زهرة شبابه ودالية شيخوخته للمقاومة الفلسطينيّة، منذ التحاقه بالجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، حتى استقلاله عن الجسم التنظيمي وانخراطه في دعم المقاومة بأشكالها كافة، فلم يترك حيزّاً لإسناد الشعب الفلسطيني إلا وملأه، فارتحل مع المتطوّعين وأقام في العراء، وجابه الأخطار في "أسطول الحرية" الذي سعى ونجح في كسر الحصار عن غزة.
من الصعب أن تقابل، في هذا الزمن الملوّث، إنساناً يعتنق الحرية، متديناً لا يكفّر الآخرين، داعماً للمقاومة بدون إشهار أو ادّعاء. وإن أنتَ سألته عن تفاصيل ما يفعل يغمغم في الإجابة كيلا تسقط من فمه كلماتُ الخيلاء، وهو أحقّ بها من كلّ الذين يملأون الفضاء بالجعجعات.
روى لي حكايات كثيرة عن البأس الشديد، وكان يبعث في قلبي الإحساس العميق بالجدوى بعد أن تقطّعت بي الآمال، وارتطم عقلي بجبال المستحيل. كان سارداً ذا ذاكرة وقّادة، يستعيد الوقائع والأسماء، ويخفي ما كان يعتقد أنها أسرار لا يجوز البوح بها، لأنه شخص أخلاقيّ ومسؤول حتى لو ابتعد عن العمل التنظيميّ. المناضل لا يستقيل، ويعلم أنّ بعض الكلام المباح لسواه غير مباح له النطق به.
"أبو خليل" واسمه الحركي "أبو داوود" ظل حتى آخر أنفاسه ناقداً ساخطاً على المسار الرسميّ الفلسطيني بكلّ أطيافه وتلويناته. هو يعتقد أنّ المقاومة لها سبيل واحد، وهل يمكن لمن أضحى السلاح جزءاً من جسده أن يفكّر بغير ذلك؟ وهو يدافع عن هذا الخيار، لا لأنه يحب العنف وسفك الدماء، بل لأنّ عقيدته "ما أخذ بالقوّة لا يُستردّ إلا بالقوّة".
أخذ "أبو داوود" الحياة بالقوّة، وعركها فعركته، لكنه انتصر، وشيّد ذِكراً طيّباً شاهقاً، وبثّ في أرواح مَن عرفوه واقتربوا من جمره، العزيمةَ وطولَ النَّفَس. كان صبوراً يروّض الوقت، ومن ثَمّ صار يروّض الزمن، ويروّض الصعب، ويحني الحديد بيديه الفولاذيّتين.
نشأ عمر الطحلة حدّاداً يصنع الأبواب والنوافذ، لا ليسجنَ العالم فيها، بل ليطلَّ منها على حياة عشقها حتى الثمالة، فأهدته أجملَ قلائدها: السيرة الماجدة والخلود الأنيق.