لِكُلِّ دولةٍ قانونٌ يحدد حق المواطنة. بعض الدول تعتمد مبدأ الإقامة طويلة الأمد التي تنتهي بالحصول على المواطنةِ بعد اكتمالِ الشروط المطلوبة فيصبح الإنسان بعدها مواطناً له كافة الحقوق وعليه كافة الواجبات، مع استثناءاتٍ قليلة مثل الترشح لمناصب سياسية عالية. و بعض الدول تمنح الإقامة طويلة الأمد من دون تتويج بمواطنة و مع حقوقٍ متكافئة مع المواطن إلا السياسية منها. و بعضها يمنح المواطنة مكافأةً و عرفاناً بعد فترة خدمةٍ مميزة أو لاستثمارٍ سخي. و بعضها يتشدد و لا يمنح أي تساهلٍ للأجنبي القاطن الذي تبقى حياته مرتبطةً بعملهِ و بنهايته يُغادر، و لو طال الزمان. و تعني المواطنة المكتسبة بالأصل، أو بالولادة في بعض الدول، أو بالمنحة، التزام المواطن بوطنه و احترامه له و للمجتمع و العمل لصالحه، و اعترافا بحقوقه من الوطن. سواء كانت المواطنةَ بالتأصيلِ أو الاكتساب فهي مَأسسةٌ قانونيةٌ تجيزُ للمواطنِ الانتفاعَ بالحقوقِ و تطلب منه الالتزامِ بالمسؤوليات. لكن بعض الصعوبةَ تطرأ عندما يستخدم البعض في المجتمع مقياساً عاطفياً للحكم على مواطنيةِ المواطن. هناك من المجتمعاتِ من ُتعامِلْ المواطن المختلف عن الغالبية على أنه غريبٌ و تسحب الحكم على ذريته كذلك و لو اكتسبوا الصفاتِ الظاهرةِ للمواطنة. و الذكي من المجتمعات والحكومات من يتوسم في المواطنية و يُجَذِّرُ فيها الإيجابيةَ في العطاءِ و بناء الثراء الكُلِّيِّ الآتي من التسامح و القبول و من تنوع الأفراد المواطنين و خبراتهم و علومهم و ثقافاتهم. لا يعني هذا اختفاء الرفض، لكن بقاءه ضمن أضيق الحدود.
كما يثقُ المواطن في الدولة وحكومتها التي منحت المواطنة وأن شروط منح المواطنة قد انطبقت على مستحقها دون استثناء، و إلا فلن يكون مواطناً. و على قاعدة شرعية الدولة و الحكومة و قبول الشعب بها، فإن المواطنة هي صفةٌ شرعيةٌ واجبٌ احترامها وعدم التشكيكِ بها. وعلى المواطنِ مسؤولية الإيمان بهذه المواطنة وعدم وضعها موضع التنافس مع غيرها. إنها حالة توازنٍ بين الوطنِ والمواطن توثقها و تشد عضدها شرعية الوثائق و رغبة الانتماء. لكن رغبةَ الانتماء حالةٌ قد تتخذُ صوراً متعددة، فقد يرغب الإنسان بالانتماء لبلدٍ ثانٍ و ثالث و ينجح بهذا أو يجد نفسه منتمياً لأكثر من بلدٍ بمحض الولادة، ولا يؤخذُ عليه توزع انتماءه بهذا الشكل من أي جهةٍ منحته المواطنة ما دام الأساس هو الالتزام بشروط المواطنة من الطرفِ المانح و الطرفِ المتلقي.
العالم ليس مثالياً كما نعلم و سيبقى يشهد فوراتٍ غاضبة ممن يعتقدون أن المواطنة حِكْرٌ على أصلٍ و لونٍ و دينٍ و عادات، و ما سواهم ليس إلا دخيلاً غيرَ مستحقٍّ و ينبغي معاملته بصلافةٍ و حتى رفضه. و بعض الحكومات تُصَنِّفُ مواطنيها بدرجاتٍ أولى و ثانية من منطلق الحرص على نوعٍ صافٍ من المواطنة، و هذا ضَرْبٌ من الهراء و السفه العنصري. و عند البعض من العامةِّ عادةٌ قميئةٌ مثل تصغير درجةِ المواطنة ليصل للحكم الظاهري علىها من لَكْنَةِ المواطن أو مدى قُرْبهِ من رياضةٍ أو حتى من نوع طعام. و الأخطر هو حين تتبنى الدولة و الحكومة توجهاتٍ تقبل بالتصغير، و هو ما يحدث مِراراً و بدولٍ عديدة. ممارسة التصغير تصبح أشد افتراساً للمواطنة حين تتكرس ثقافةً. عندها يكون من الصعب التئام شرخ أصاب مبدأ المواطنة. صعبٌ أن تكون مواطناً تواجه سياساتِ و ثقافةِ إقصاء و لو تلميحاً فكيف لو كان تصريحاً و اعتداءً. هذا ما يشتكي منه مسلمو الهند و قبلهم مسلمو ميانمار و كذلك قبائل السكان الأصليين في كندا و أمريكا و أستراليا و سودُ أمريكا و غيرهم كثير. وعندنا في الوطن العربي أمثلةٌ من التمييز و التصغير المواطني أيضاً قائمة على الأصل و اللون و الدين و الطائفة و اللغة.
إن جوهرَ المواطنة هو في أن تكون صالحاً. أن تخدم وطنك ومجتمعك دون إفساد. أن تُكْرِمَ وطنك بالخلق الحسن و النية الصافية و العملِ المفيد. كما أن جوهرها هو في المساواة وسيادة العدل بين المواطنين و العدلُ هو شأنُ الدولة و مؤسساتها. ما عداه من سماتٍ دارجةٍ للمواطنة هي إضافاتٌ لجوهر المواطنة. أما الخللُ الوطني فيحصل حين الإضافة القِشْرية تتغلب على الجوهر، والخطر يعم حين يتملك المواطن الاحساس بميل ميزان العدالة. لا سبيل لعلاج هذا الخلل إلا بالتعليم والتثقيف والتربية وهي مجالات تتسع للدولة و المجتمع و العائلة والفرد. كما أنها مجالات لا تحتمل التجاهل. و بعدلٍ تقوده الدولة. ليس المطلوب إلا جعل الاستثناء محجورا، و جعل القبول المواطني هو الأعلى. بإخلاصٍ و تصميم.