لعل آخر صرعات السياسية الأمريكية المناهضة لروسيا الاتحادية ورئيسها فلاديمير بوتين أنتجها الكونغرس الأمريكي ممثلا بإثنين من أعضائه الكبار (ستيفان كوين و جون أوليسون) بتاريخ 19 تشرين الثاني المنصرم من العام 2021، عندما صرحا معا، بأنه إذا ما ترشح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد عام 2024 لفترة رئاسية جديدة وفاز بعد الإعلان عن قرب تصفير الدستور، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لن تعترف به رئيسا لروسيا و لن تتعامل معه. والتصريح السياسي الأمريكي الجديد والغريب والمدهش هذا، مثّل مشهداً من الكونغرس الأمريكي، وليس كل الكونغرس كما أتنمى وأعتقد، ولم يمثل موقفا رسميا للرئيس الأمريكي (جو بايدن) بطبيعة الحال، وهو الأمر الذي يجب أن لا يرتقي لهذا المستوى من التصعيد، و لم أسمع -حتى الساعة- أي تصريح موجّه من الرئيس بوتين نفسه. وفي المقابل، جاء رد مجلس الدوما الروسي (البرلمان و الأعيان) صارما ومُوعدا بقطع العلاقات الدبلوماسية مع أمريكا، إذا ما تحقق وعد الكونغرس الأمريكي الآني، وتصريح مقابل للناطق الإعلامي بإسم قصر الكرملين الرئاسي في موسكو (دميتري بيسكوف) يستهجن الخطوة الأمريكية المستجدة.
وحري بأمريكا) جو بايدن (أن تعرف أن مؤتمر جنيف الأخير 2021، قد شكّل نقطة حاسمة في العلاقات الأمريكية - الروسية وباتجاه إيجابي، وهو بمثابة )كتاب أبيض( وعلى كافة الصعد السياسية والعسكرية (سباق التسلح)، والأمنية (عدم التدخل في شؤون الغير)، والاقتصادية، عبر زيادة حجم التبادل التجاري، وهو الذي يُقدر العام الحالي 2021 بـ (19,8) مليار دولار فقط، وهو رقم شحيح بين قطبين عملاقين متنافسين.
فالذهاب للتعاون في كافة المجالات الممكنة، والعمل على إبقاء الخط الساخن بينهما ساري المفعول. وروسيا (العظمى)، وبما تملكه من مساحة جغرافية عملاقة (أكثر من 17 مليون كلم2)، وتتوازن مع حلف (الناتو) العسكري بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على مستوى قوة النار غير التقليدية وفوق النووية وفوق الصوتية والفضائية، ليست إقليم (الاسكا) الذي تم بيعه لأمريكا في العهد القيصري، وهي - أي روسيا- غير تابعة لأمريكا و قطبها الأوحد - كما تعتقد- وتقود عالم الأقطاب المتعددة و المتوازنة، والأكثر التزاما بالقانون الدولي، وحققت نجاحات كبيرة في سوريا تحديدا، وتفوقت في مطاردة الإرهاب المجرم الذي تصدرته عصابات داعش المجرمة.
وتعتبر روسيا أمريكا واحدة من أكبر دول العالم، وتعترف بعظمتها وبقدراتها النووية العملاقة، وهو الأمر المحتاج من الطرف الأمريكي أن يعترف أيضاً بعظمة روسيا وبقوتها النووية العملاقة في زمننا. وكل تصريحات بوتين تصب في صالح ترطيب العلاقات مع أمريكا حتى عندما انزلق لسان (بايدن) بحق بوتين قبل جنيف ووصفه بالقاتل killer, وردّ بتمني الصحة له. وأمن العالم نهاية المطاف هو الغاية و الهدف، ولا بيت للعالم غيره، وزمن الحروب العالمية الأولى 1914 1918 و الثانية 1939 1945 أصبح من أرشيف الماضي، و يصعب على قوى العالم الكبرى المعاصرة التجديف صوب صنع حرب عالمية ثالثة مدمرة للحضارات وللبشرية، والعودة بالعالم إلى ما قبل التاريخ، وإلى عصر الكهوف والحجارة والرماد.
والسؤال العريض الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا هي أمريكا في العلن وفي السر، غير معجبة بشخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الباني، وتفضل شخصيات عليه لو بقيت في مكانها مثل بوريس يلتسين وميخائيل غورباتشوف الهادمة لروسيا وللإتحاد السوفيتي، في وقتٍ تتمسك روسيا الاتحادية بزعامة بوتين منذ عام 2000، وهو الذي قاد بلاده صوب النهوض و الاستقرار، وعلى أكثر من صعيد سياسي ودبلوماسي واقتصادي، وعلى مستوى المواصلات فوق الأرض وعلى شكل أنفاق ميترو، وعسكري غير تقليدي وفضائي رغم صعوبات الداخل، ذات العلاقة بحمى سباق التسلح، فنجد مدنا من الدرجة الثالثة مثلا بلا شوارع معبدة وبنسبة مئوية ملاحظة، وارتفاع في أسعار المحروقات، وتدني في رواتب القطاع العام و التقاعدات، وضعف في البنية التحتية السياحية لصالح سياحة الخارج خاصة التركية منها، وحاجات وتقنيات متعلقة بتطوير المستشفيات، وتفوق عالمي في المقابل في مجال لقاح (سبوتنيكV) الروسي، وبأنواع مختلفة في ظل ارتفاع أرقام جائحة كورونا في الداخل الروسي، و تضخم في العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية مثل الدولار و اليورو .
ليس سهلا تصور أن يستمر بوتين وحزبه الحاكم (روسيا الموحدة منذ عام 2001) في قيادة روسيا بين الأعوام 2000 و2004, وحتى 2008، وبعد فترة (دميتري ميدفيديف) الانتقالية واحتراما للدستور الروسي، والعودة من جديد بعد عام 2012 و حتى عام 2018، والاستمرار حتى الساعة وإلى تاريخ 2024، واحتمال تصفير الدستور الروسي وارد ليستمر لفترتين رئاسيتين قادمتين في عمق الزمن القادم وحتى عام 2036 إن أعطاه الله العافية و طول العمر، لولا ما يتمتع به من كاريزما فولاذية وشخصية سياسية وأمنية وعسكرية فريدة من نوعها، لم تشبهها في تاريخ روسيا و الاتحاد السوفيتي سوى شخصيات (جوزيف ستالين، وجيورجي جوكوف، ويوري أندروبوف، ويفغيني بريماكوف)، مع الفارق السياسي والعسكري، وحسب الحقبة الزمنية.
ويقود بوتين مؤتمرات شعبية إعلامية مفتوحة سنوية ناجحة من داخل قصر الكرملين الرئاسي، ويساعده في السياسة يوري أوشاكوف، وفي الدبلوماسية وزير خارجيته المخضرم سيرجي لافروف، وفي قضايا الدفاع الوزير قائد الجيش الأحمر سيرجي شايغو، وفي شأن البحرية العسكرية الأدميرال نيكولاي يفمينوف، وارتباط مع الفضاء.
وأخيرا و ليس آخراً، هل من الممكن اعتبار التصريح الأمريكي هذا جزءا من سلسلة محطات الحرب الباردة المندلعة منذ نهايات الحرب العالمية الثانية 1945 من دون توقف؟ أم أنه عابر لا يرتقي لمستوى الأخذ به بجدية؟
لقد طفح كيل المماحكات الأمريكية و من طرف حلف (الناتو) العسكري قرب الحدود البرية والمائية الروسية، وعبر إلغاء الاتفاقات الخاصة بالصواريخ النووية متوسطة المدى والنووي الإيراني، رغم العودة عن الأخيرة بعد التشاور مع إسرائيل. دعونا نتأمل ماذا سيحدث في قادم الأيام؟!