الملكية في الأردن وصحبة الدبّ
ياسر ابوهلاله
02-12-2021 11:57 AM
لم تكن علاقة الهاشميين بمواطنيهم مبنيةً على ملكية مطلقة، لا الشريف حسين بن علي، ملك العرب، ولا أنجاله فيصل وعلي وعبد الله، ملوك الحجاز والعراق وسورية والأردن. ظلت العلاقة على أساس تعاقدي قائم على الملكية الدستورية، فالشريف وأنجاله ورثة مرحلة الدستورية في نهاية الإمبراطورية العثمانية، وهو نفسه كان عضواً في مجلس المبعوثان، وعندما أطلق الثورة العربية الكبرى قدّم نفسه ملكاً دستورياً للعرب على مبدأ "حفظ الدين وحرية العرب". وأركان الثورة من ضباط عثمانيين عرب، مثل ضياء الدين العمري وخلقي الشرايري، أو مثقفين وشعراء، كخير الدين الزركلي ومحب الدين الخطيب وغيرهم، تأثروا بالأفكار الدستورية الغربية والموروث العربي الإسلامي الذي يُعلي من قيم العروبة والحرية معاً.
لم تتوقّف الانتخابات في شرق الأردن، مثل بلاد الشام عموماً منذ العهد العثماني، إذ انتخب الأردنيون ممثليهم في مجلس المبعوثان العثماني. وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وقيام الحكومة العربية في دمشق، انتخب الأردنيون ممثليهم في المؤتمر السوري العام. ومع انهيار مملكة فيصل على يد الجيش الفرنسي، لجأ رجالها إلى شرق الأردن، واعتمد عليهم الأمير عبد الله في بناء الدولة، وكان السوري رشيد طليع أول رئيس وزراء للأردن. لم تكن جغرافيا الأردن نهائيةً وقتها، وظل طموح الأمير القادم من الحجاز مثل طموح أبناء البلاد "حرية العرب"، ولم تكن حدود الدولة لتقف على ما رسمه المستعمر شرق نهر الأردن.
بعدها بثماني سنوات، شرّع أول دستور أردني (القانون الأساسي لعام 1928)، فسورية خضعت للانتداب الفرنسي، وفيصل ملك العراق. وكان أول دستور أردني تعبيراً عن واقعية تنزل أحلام الثورة العربية على الأرض. وفي 1946، استقلت البلاد مملكة، وصدر ثاني دستور لها في 1947، وبعدها بعام وقعت النكبة الفلسطينية، وهو ما مكّن الملك من ضمّ الضفة الغربية التي خاض فيها الجيش العربي الأردني معارك طاحنة، حافظ فيها على القدس القديمة وحرّر الحي اليهودي. وأعلنت وحدة الضفتين في 1950، وهو ما شكّل أرضية لدستور 1952 الذي يعدّ من أكثر الدساتير العربية ديموقراطية. نجح ممثلو الضفتين في صياغة دستور تقدّمي نصّ على أن "نظام الحكم نيابي ملكي"، على خلاف دستور 1946 الذي نصّ على "ملكي وراثي"، وأن "الأمة مصدر السلطات".
هذا الإرث الدستوري الذي تعاقد عليه أجداد الأردني ظل مرجعية محترمة، ولو تعرّض للتعطيل، فالملك يحكم من خلال وزرائه، وهم نالوا ثقة الشعب من خلال نوابه، وكل إرادة ملكية موقعة من رئيس الوزراء والوزير المختص، وهو ما يحفظ مكانة الملك المُصان من أي مسؤولية، وأوامره "الخطية والشفوية لا تخلي الوزراء من مسؤولياتهم".
واجه الدستور الأردني تحدّياً من محسوبين على المعارضة، تماماً كما واجه تحدّياً من المحسوبين على النظام في عهد الملك عبد الله الثاني، فبعد حديث كوندليزا رايس عن ضرورة وجود حكومة منتخبة في الأردن، تعالت أصوات معارضين تطالب بملكية دستورية! فمستشرقة مثل رايس لا تعلم أن كل حكومة في الأردن هي منتخبة، بمعنى أنها تشكّل من أكثرية النواب المنتخبين، ولا تمارس عملها إلا بعد نيل الثقة، وتسقط كلها أو يسقط أي وزير فيها تُطرح فيه الثقة.
مقابل المعارضين للدستور، ثمّة موالون للنظام، ردّوا عليهم على طريقة صحبة الدبّ الذي أرداد حماية صاحبه من نحلة تمرّ من عند وجهه بإلقاء حجر عليه. في 2016، أجريت تعديلات دستورية، حصرت تعيين المناصب الأمنية والعسكرية وغيرها بالملك من دون الحكومة، أي من دون الركن النيابي من الدستور. وتتكرّر صحبة الدب في التعديلات التي تقترحها حكومة بشر الخصاونة، بإنشاء مجلس أمن وطني، يتولّى السياسية الخارجية أيضاً بمعزل عن الحكومة!
عندما واجه الملك حسين انقلاباتٍ عسكرية، واحتلالاً عسكرياً للضفة الغربية، وأحداث أيلول التي كاد الجيش السوري يحتل فيها شمال البلاد، لم يُشر عليه أحدٌ بتعديلاتٍ دستوريةٍ كهذه، لأن أصحابه لم يكون مثل الدبّ. كانوا يعرفون أن الملك هو رأس الدولة، وأن الحكومة كلها، عسكرية وأمنية واقتصادية و.. هي حكومته، وأن النيابية هي شرعية للعرش وحماية له، وليست خصماً.
تُعذر كوندليزا رايس بجهلها، لكن لا يُعذر أردنيٌّ يُقسم على احترام الدستور بجهله. تعديلات 2016 والتعديلات المطروحة اليوم هي انتقاص من مكانة الملك الدستورية، فلا توجد حكومة تابعة له في القصر، وأخرى تابعة للمعارضة تحت القبة، هو رأس السلطة كلها لا بعضها. قائد الدرك عندما يواجه تحدّياً أمنياً مسؤول أمام الملك تماماً، مثل وزير الصحة عندما يواجه جائحة كورونا. ومجلس النواب في الحالين يحاسب الاثنين، ولا يحاسب الملك المُصان، ولا تخلي أي منهما أوامر الملك. في ظل هذه التعديلات يختبئ المسؤول وراء الملك، بدلاً من أن يتصدّى حماية له.
العربي الجديد