عندما استقبلني الدكتور محمد غانم الرميحي عام 1986 بمكتبه في أول يوم عمل لي كمحرر في مجلة العربي الشهرية الكويتية العريقة، أسند لي مهمة تولي مسؤولية قسم الأرشيف. أصابني إحباط كبير، وشعور بالغيظ. كنت معتداً بذاتي أكثر من اللازم، أو قل مغروراً، ربما بسبب عديد من نشاطات شاركت فيها مع جيلي في مهرجان جرش، وفي تأسيس جريدة صحافة اليرموك، وعضوية لجنة الكتاب السنوي، وغير ذلك، وربما بسبب شعور زائف منحني إياه صديقي الفنان أحمد الحموري وأنا أجلس قبالته وهو يخط شهادة تخرجي بكل تؤدة. أذكر أنه استهلك علبة سجائر كاملة. يخرج سيجارة فيلادلفيا ذات فلتر أبيض مستورد، ويداعبها، ويشعلها، ويأخذ بنفث الدخان في اتجاه سقف الغرفة، ليخط حرفاً واحداً، قبل أن يشعل سيجارة ثانية. يغير رِيَش الكتابة، ويغير معها نوع الخط، فاسم «المملكة الأردنية الهاشمية» بخط الثُلُث، واسم الجامعة بالكوفي، ثم ينتقل إلى «الإجازة» ليقول استناداً إلى، ويعود إلى «الكوفي» لذكر التخصص الذي تُمنح فيه الدرجة، قبل أن ينتقل إلى «النسخ» لرقم الشهادة، وأخيراً «الرقعة» لذكر أن هذه الشهادة غير معتمدة بدون الختم الرسمي.
كنت أعتقد أن الشهادة على هذا النحو، يجب أن تفتح لي كل الأبواب. هل ينتهي بي الأمر إلى أرشيف مجلة. تداعت إلى ذهني في تلك اللحظات أفلام عربية ظهر فيها موظف أرشيف بليد لا يخلو من غباء وخبث. لم أكن أعلم وقد قبلت التكليف على مضض، أن الرجل أسدى لي أكبر خدمة في حياتي، أولها أنه وضعني على الدرجة الأولى من «عالم المعرفة»، - ليس بالطبع سلسلة عالم المعرفة التي تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - فأرشيف مجلة العربي، ليس أرشيف وثائق، أو شهادات ميلاد، أو نحو ذلك من ملفات يعلوها غبار، بل هو بحر ثري بالمعرفة والصورة الخلابة. أقول الصورة لأن «العربي» قامت منذ كانون الأول عام 1958 على فكرة الاستطلاعات؛ مُستطلِع ومصوِّر، كان أولهما الصحفي سليم زبّال، والمصور أوسكار مِتري الذي كان لي شرف أن زاملته في آخر سنتين من عمله، قبل أن يتقاعد ويهاجر إلى كندا.
كانت أولى مهماتي، تطوير الأرشيف إلى مركز معلومات متطور، يعتمد على الأساليب الحديثة في حفظ المعلومات وسهولة استرجاعها. قررت أن أتحدى ذاتي وغروري، ونجحت في عام واحد في الارتقاء بذلك القسم، ليصبح في أبهى صورة، وهكذا تدرجت إلى أن أصبح رئيس التحرير، يكلفني بتقييم كل عدد بعد صدوره، وتحليل المحتوى، وبخاصة الاستطلاعات الشهرية، وكان ذلك يتم في غاية السرية دون أن يعلم كافة الزملاء باسم «شيطان» ينكش من خلف ظهورهم، ورحم الله الزميل محمود عبد الوهاب الذي راوده بي الشك، وحاول استفزازي وهو يتساءل أمامي عن من يكون ذلك الشخص، ويدعو عليه أسوا الدعوات فيما يراقب ملامحي. تدربت في جعل وجهي، يشبه «المانيكان» بلا ملامح.
تطلب الأمر مني فتح الأدراج والمغلفات والملفات واحداً تلو الآخر، أمكث في مكتبي بمنطقة «المِرقاب»حتى الثامنة ليلاً ، لا يرافقني أحد سوى الرغبة في النجاح، وصوت هديل حمام على النوافذ، وهرة سوداء لا أظنها غادرت المبنى منذ سنين، أستأنس بها، وهي تطرد الصمت عن الطابق الخامس.
وفي يوم من الأيام، وبينما كنت أقلب مغلفاً يحتوي على صور، وإذ بورقة مطوية اندسّت فيما يبدو عن غير قصد. كدت ألقيها في المهملات مثل كثير من أوراق وصور عديمة الفائدة. لسبب لا أعرفه، قمت بفتح الورقة اليتيمة، وأخذت في قراءتها. استغرق الأمر بضع دقائق لأستوعب. رسالة من شاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب، إلى رئيس التحرير المؤسس الدكتور أحمد زكي، يتمنى عليه مساعدته باستكتابه في المجلة، بعد أن حاصرته - كما ذكر- ثلاثية الغربة والوحدة والمرض. ربما خَجِل أن يجعل منها رباعية ويضيف إليها الفقر، أو خماسية، ولا أريد أن أذكر السبب الخامس لاعتبار أخلاقي.
كان السيّاب يرقد على سرير الشفاء، أو سرير الموت؛ يصح هذا كما يصح ذاك، ويعالج على نفقة الكويت في المستشفى الأميري الذي يطل على شارع الخليج العربي، لا أعرف الشعور الذي انتابه في تلك الأيام، ولا الظروف التي نزل فيها من سريره إلى الشاطيء، أو «سْيف» البحر، كما يسميه أهل الخليج، لكن من الثابت أن «أنشودة المطر»، كُتبت في تلك الأجواء الحزينة، وهو يموت منفياً خارج وطنه، لا يَحول دون هذا الغريب، والعراق، سوى البحر، يوم جلس يهدُّ بنشيجه أعمدة الضياء: «والبحر دونكَ يا عراقُ».
شعرت بأسى. تركت مكتبي وأنا أحمل الرسالة إلى بيتي. قرأتها مراراً، أتأمل خطّ السياب، وشكل أحرفه «المسمسمة». اقتحمت صباح اليوم التالي مكتب رئيس التحرير، وعرضت عليه الرسالة. كادت دموعه أن تسقط وهو ينظر إلي من تحت نظارات القراءة الرفيعة الشفافة، وكأنه يريد أن يقول: يا خسارة. نُشرَت الرسالة في أول صفحة في العدد التالي. غادر السيّاب المستشفى الأميري قبل أن تُورِق الكُروم، وترقُص الأضواءِ، كالأقمار في نهر، يَرُجُّه المجذاف وَهناً ساعة السحر. رحل، وغرِق الوطن في الأحزان والفتن، وظلت «أنشودة المطر».
ظل السياب الذي غادر وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، واحداً من أبرز أعمدة الشعر العربي الحديث. ظلّ رغم ما صعّد من نشيجِ، ورغم ضجيجٍ أحدثه عشرات من أؤلئك الذين ارتدوا عنوةً، عباءة الشعر.
(الدستور)