عندما نشرت مقالتي في الرابع والعشرين من الشهر الماضي تحت عنوان «نموت قهراً»، فوجئت برسالة صوتية من صديقة عُمر، مقيمة في أوروبا، تقول فيها: «الله على هذا التوارد. ليلة الأمس كنت أسائل نفسي: عامر، كم سيعيش؟». الحقيقة أنني جفلت في اللحظة الأولى، ولأني من أؤلئك الذين يقولون: «صَعَد المطر» عندما تهطل السماء، فقد قلت: يعني متى سأموت؟ ثم سألت: هل يعقل أن أحداً في هذا الكون معني بانتظار غيابي.
الصحيح أن صديقتي عبرت بعفوية وبصياغة غير متكلفة، مباشرة، صادقة، عن قلقها. فكرة خطرت ببالها، ربما لا تعرف سبب ورودها إلى ذهنها، لكنها أخت محبة، عبرت عن مشاعر خشية.
لم أجبها بالطبع. لم أجبها لأسباب عديدة، أولها أن من يعرفني جيداً، يعرف أن السؤال لم يخطر ببالي يوماً، لم أسأل نفسي لحظةً: كم سأعيش، ومتى سأموت، والسبب بسيط. أنا رجل لا يخشى الموت، وبقدر عدم خشيتي منه، أحب الحياة. والسبب الثاني أن الله لم يوفر لأحد الإجابة من قبلي، فإذا كنا لن نحصل على الإجابة، فلماذا السؤال. إذاً فلتسقط الأسئلة.
رغم ذلك، إلا أن سؤال صديقتي أشعل لدي فتيلاً من زيت لم أبحث طوال حياتي عن عود ثقاب لإشعاله. يبدو أنها أشعلت الفتيل. قلت: على الرغم من أنني لا أعرف ساعتي، إلا أنني أتمنى على الله أن لا تأتي قبل أن أنشر روايتي القادمة «وسط البلد»، وكتابي الأول في أدب الرحلات، والمسألة لا تتعدى أشهراً، بما في ذلك حصاد الجهد بقليل من الفرح في حفل إشهار، ثم قلت: ماذا سيحدث لو جاءت الساعة وأنت بعد لم تحقق هذا الهدف، فوجدت الجواب على الفور. لم أتردد في اتخاذ ما يجب اتخاذه من إجراءات، خشية من مفاجأة قريبة قد يكون الله عز وجل قد أخفاها عني. اتصلت بولدي، وأخبرته ما يجب عليه فعله لو حدث الأمر قبل أن أتمكن من النشر.
فزع ولدي من الكلام. ربيما ظن أنني أتحدث عن شيء أعرف جيداً أنه سيقع. سارع إلي ليطمئن قلبه وينزع عن نفسه خوفا تسلل إلى وجدانه. وجدني أبتسم. قلت لنفسي: سيظن أنني أصبت بلوثة. سألني عن الأسباب، فقلت له الحكاية. قال: هل هذا كل همّك. ألم تفكر بوجع ستخلفه لي ولأختيّ ومحبيك عند رحيلك. قلت ضاحكاً: وهل المطلوب مني أن أرأف بقلوبكم عند رحيلي؟ قال: أنت لن تشعر بالألم؛ هل ستعرف عندما تموت أنك مت؟ قلت: لا، أنتم ستعرفون. قال: ونحن من سيتألم. قلت: نعم، ولكن سأكون أنا الخاسر الأكبر. هل تعتقد أن الموت يمكن أن يعوض خسران الحياة.
في اليوم التالي، عدت إلى هدوئي، وإلى الله، وحكمته، ومشيئته، وأن أترك له رغم أنفي حرية اختيار الزمان والمكان. قررت كعادتي، أن أحتفي بالحياة. أن لا أنتظر المفاجأة، وأنا رجل لا يحب المفاجآت.
ليس أمامنا إلا مواصلة الكفاح من أجل سعادة الآخرين، والعمل على إنقاذهم كما قال حنا مينا «من براثن الخوف والمرض والجوع والذل»، وأن أبذل كل وسعي في نشر الفرح والبهجة في القلوب. أن أحلم بالزمرد، وأستمع إلى فيروز، وأسعى إلى الياقوت، لا الموت، والتابوت.
تذكرت ما قاله «ستيفن كينغ»؛ ينتهي الأمر دائماً إلى اختيارين؛ إما أن تنشغل بكيف تعيش، أو تنشغل بكيف تموت». اخترت الطريق اليسير: أن أنشغل بكيف أعيش، ومن يجد اليسير، لا يذهب إلى عسير.
الدستور