مذهلة هي الذاكرة. الذاكرة الصورية. البصرية. التخيلية. مذهل ذلك الربط الساحر بين الإدراك البصري والتخزين العقلي. تشبه الصورة في الذاكرة، الحلم. نستدعي الحلم في حالات الضرورة عندما تتوق أنفسنا للعودة إلى حضن الطفولة، أي عندما نرغب أن نعود أطفالاً كما كنا. ليس بيدك سوى الحلم للوصول إلى ذلك اللامكان. إن شئت، فإن عليك أن تمتلك مفاتيح الروح. الروح وحدها يمكن أن تعيد معالي الدكتور حازم نسيبة إلى طفولته، ليشاهد في سماء القدس، المنطاد الألماني "زبلن"، وليس غير الروح يمكن أن تعيد دولة أحمد عبيدات ليركب بعد صلاة الفجر حماراً مع ابن خاله "غالب" ليتوجها إلى أشجار الرمان، وحقول القمح في سهول "حرثا"، وليس غير الروح يمكن أن تمكنه عندما يرقب مشهد هطول المطر في عمان، أن يعود إلى مشهد تساقط المطر، وهو في سن الطفولة في ريف يسبح بحمد الله بأرضه وسمائه. ليس غير الروح بمفاتيحها العتيدة يمكن أن تجعل وجه صديق "أبو ثامر" السلفيتي "خميس حمد" حاضراً في مجلس من مجالس اليوم.
أبواب الروح كثيرة. مختلفة الأحجام، وأقفالها مختلفة أيضاً. على المرء أن يختار المفتاح الصحيح للقفل الصحيح، وإلا فإنه لن يكون قادراً على الدخول إلى تلك المنطقة المحلِّقة الشاسعة. إذا استطاع المرء فتح أي من هذا الأبواب التي تقود إلى الروح، فإن بإمكانه أن يتجول كما يريد في عالم له أول وليس له آخر. الدخول إلى الروح يشبه الحلم كما قلت. ننام ونتخلى عن الجسد. الروح تبقى حية، والروح تشبه الحلم، وعندما تدخل إلى منطقة الروح، فإنك تدخل إلى المطلق. هناك لا زمان، ولا مكان. تفتح لك الأبواب. بإمكانك أن تبحر في الكون كله من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها. بإمكانك أن تستحضر ما تشاء، ومن تشاء، بكل حرية، وبلا رقابة أو حسيب.
لكل إنسان مفاتيحه الخاصة - إن كان يملك مفاتيحاً، أو إن أجاد استخدامها - الحركة في منطقة الروح أسرع من سرعة الضوء، ثلاثة أضعاف سرعة الضوء البالغة 300 ألف كيلو متراً في الثانية. بإمكانك في هذا الوقت أن تلفّ حول الأرض سبع لفّات ونصف. لا تملك السيدة هيفاء البشير، وهي في التسعين من عمرها المديد، أن تستعيد تفاصيل الحياة في كلية دار المعلمات في القدس عام 1947 عندما صدر قرار التقسيم، إلا إذا عبرت منطقة الروح. لا تستطيع أن ترى بعينيها إنعام المفتي رحمها الله، الصفدية التي جاءت إليهن مسرعة في حي "مياشيرم"، لتقول أن المدرسة وقعت تحت حصة اليهود في قرار التقسيم، وأنها ستغلق أبوابها، إلا إذا امتلكت "أم مازن" مفتاحاً من مفاتيح الروح. عندها يمكنها أن تستعيد وجه "مِس هَكَر"، والسوالف المجدلة لطائفة "ناطوري كارتا" اليهودية المتدينة.
وهكذا نجد حيدر محمود عندما يستعيد قصص "ثريا الغيث"، وكيف يرتبط البحر الأبيض المتوسط في ذاكرته، فتصبح صورة الموجة البصرية، ناقلاً لوجه أمه، ويقرر أن ثريا قد "طوّبت" باسمه تلك الموجة التي ولد في أحضانها، ومن السهل على الشاعر أكثر من غيره الدخول إلى مناطق الروح، لكن الروائي. - الروائي الحقيقي وليس الحكواتي - أكثر قدرة على الإبحار في عوالم الروح، فالشاعر يتحدث فرداً، وأما الروائي فإنه يقود مجاميع. يبدو أن قدرته على التخيل تفوق قدرة الشاعر، إلا أن الفنان الحقيقي يجيد الإبحار في تلك العوالم أيضاً. المبدع بعامة يمتلك تلك المفاتيح، الكتّاب أيضاً، وإلا فكيف تمكّن محمد داودية من العودة إلى طفولته في كنف سراب الصحراء وهجيرها، وكيف استعاد صور مرضعاته، "سالمة"، و"بخيته"، وتلك المرضعة زوجة أحد مراقبي الخط الناقل للنفط من كركوك إلى حيفا، وكيف استعاد أنابيب النفط، وعصمليات معلقة على صدر أمه، ووجه أمه "جظّة"، وحضن أمه، وكل هذه التفاصيل الدقيقة للماضي البعيد. لا سبب سوى أنه يمتلك مفتاحاً كبيراً لباب كبير. احتفظ بالمفتاح، وعرف أين يكمن القفل، وفتحه على بركة الله، وعبر إلى عالم الروح في تلك الرحلة الصوفية، فكانت مذكراته.
تلك هي الحكاية. حافظوا على مفاتيحكم، واعرفوا مكان الأقفال، والوقت المناسب للدخول إلى عالم الروح، استدعوا من شئتم، وافعلوا ما شئتم، ولن تشاؤوا إلا أن يشاء الله، وصدق جل جلاله في محكم آياته، قوله: "وإن يوماً عند ربك، كألف سنة مما تعدُّون". "يسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي" صدق الله العظيم.
(الدستور)