الثامن والعشرون من شهر تشرين الثاني من كل عام ذكرى أليمة في نفوس الأردنيين بفقدهم سيد الرجال رئيس الوزراء الأسبق الشهيد وصفي التل الذي اقترن اسمه على الدوام في نفوس الأردنيين بالإخلاص والتفاني وتحقيق المنجزات الحضارية التي هي موضع احترام وتقدير كل الأردنيين بدون استثناء.
وصفي التل الذي شغل منصب رئاسة الحكومة ثلاث دورات ومنصب المستشار الخاص للملك ومنصب رئيس الديوان الملكي وعضوا في مجلس الاعيان اكثر من دورة عاش عيشة متواضعة حيث شارك في بناء بيته المتواضع عاملاً و حرث حديقته المنزلية واشرف على الاعتناء باشجارها وسقايتها كما كان يحرث ارض مزرعته المتواضعة في الضليل ومات فقيرا مديوناً بمبلغ ٩ الاف دينار.
نستذكر المرحوم وصفي التل الذي كانت له الأيادي البيضاء في إنجاز عشرات المشاريع الحضارية، ففي حكومته الأولى عام 1962 جاء تأسيس الجامعة الأردنية كأول صرح علمي في الأردن، تلاه مشروع سد الملك طلال الذي تم على أثره استصلاح آلاف الدونمات في منطقة الأغوار الوسطى والتي شكلّت فيما بعد سلة غذاء الاردن، وأحد الروافد الداعمة للاقتصاد الاردني في مجال تصدير الخضار والفواكه للدول المجاورة، وكذلك مشروع قناة الغور الشرقية التي تولت نقل مياه نهر الاردن ونهر اليرموك لأغراض الشرب لساكني إقليم الوسط من خلال محطة زي للمياه وكذلك ري المشاريع الزراعية في منطقة الاغوار الشمالية.
ومن المشاريع الحيوية التي تمت في عهد حكومة وصفي التل الأولى إنشاء الخط الصحراوي الذي شكل العصب الرئيسي في ربط شمال الاردن ووسطه مع محافظات الجنوب مرورًا بمحافظات الكرك والطفيلة ومعان وصولًا الى مدينة العقبةـ حيث أسهم هذا الطريق في زيادة حجم صادرات الاردن من الفوسفات وزيادة حجم واردات الأردن عبر ميناء العقبة الى الأسواق المحلية الأردنية، اإضافة الى استصلاح الاراضي الزراعية في مناطق عديدة من الصحراء الأردنية الوسطى وخاصة في منطقة الظليل حيث كان التل أول من بادر الى استصلاح الأراضي في المنطقة المذكورة لأغراض الزراعة.
كما كان لوصفي التل شرف المبادرة في إنشاء شركة الفوسفات وشركة البوتاس لاستغلال ثروات البحر الميت الهائلة وتوسيع الساحل الأردني على خليج العقبة لمسافة ١٠٠ كيلو متر جنوبًا.
وفي حكومة وصفي التل الثانية تم إنشاء التلفزيون الأردني ومحطة الأقمار الصناعية التي باتت تشكل نقطة تواصل الأردن مع العالم الخارجي وإنشاء مستشفى الجامعة الأردنية وتطوير مستشفى البشير ليكون أهم صرح طبي في العاصمة عمان.
وحين نستذكر وصفي التل نذكر إخلاصه للقضية الفلسطينية حيث اندفع في بداية شبابه كمقاتل في صفوف جيش الانقاذ الفلسطيني بقيادة الزعيم فوزي القاوقجي لينتقل بعدها ضابطُا في صفوف الجيش السوري ليرتقي الى رتبة مقدم كضابط مقاتل ليعود بعدها الى فلسطين التي أحب ليعمل مع رجل الاعمال الفلسطيني موسى العلمي لانشاء أكبر مشروع زراعي في محافظة أريحا التي مازالت تدر الخير على من جاورها ويعمل فيها.
وبحكم عملي كسكرتير صحفي وإعلامي للشهيد وصفي التل في حكومته الثالثة فقد قرر الراحل إنشاء جريدة الرأي لتكون ناطقة باسم الدولة الأردنية، كما قرر إنشاء حزب الاتحاد الوطني ليكون دافعًا للحياة السياسية والحزبية في البلاد، كما أنني عايشت العديد من المواقف الإنسانية لذلك الرجل الذي خصص يومًا من كل أسبوع لاستقبال المواطنين في دار الرئاسة مقدماً العون والمساعدة لطالبيها من أبناء الوطن دون تمييز او محاباة لأحد.
وأستذكر أنه في احد ايام الصيف جاء إليه في دار الرئاسة وفدٌ من اهالي مخيم الحسين شاكين انقطاع المياه عن منازلهم حيث بادر على الفور بالاتصال مع مدير الدفاع المدني طالبًا اليه قيادة تنك ماء بنفسه الى المخيم لتشجيع باقي زملائه على انجاز مهمة ايصال المياه الى بيوت المخيم عبر التنكات في مدى ثلاث ساعات.
وفي أحد الأيام استذكر حدوث أزمة تمثلت بعدم وجود مادة السكر في المحلات التجارية في جميع انحاء الوطن حيث جاء وزير الاقتصاد الوطني انذاك شاكياً له امتناع وكيل مادة السكر في الاردن عن توفير مادة السكر للمواطنين حيث بادر المرحوم وصفي الى الاتصال مع الوكيل وابلاغه انذارًا شفويًا بضرورة توفير السكر في مدى ثلاث ساعات حيث تم توفيرها في جميع المحال التجارية بصورة عاجلة.
ومن المواقف المشهودة لوصفي التل زياراته المتكررة لجميع المدن والقرى والمخيمات في المملكة حيث كان يعمد كل اسبوع الى زيارة مدينة وعدة قرى اردنية للاطلاع على اوضاع المواطنين والعمل على حل المشاكل التي تواجههم ميدانياً وبدون الرجوع الى ما يسمى لجان العمل.
ومن إنجازته رحمه الله أنه أوعز بإلغاء السجلات الأمنية للعديد من السياسيين والحزبيين، وأمر بنقل ملفاتهم إلى "بيت النار" في مصنع الاسمنت بالفحيص، وسمح بعودة العديد من السياسيين الذين لجأوا ذات وجع أردني إلى مصر وسورية ولبنان، وأعادهم إلى الأردن، وعين عددًا منهم في مناصب قيادية وأذكر منهم نذير رشيد وعلي أبو نوار وعلي الحياري وعبد الله الريماوي وغيرهم الكثير.
وصفي التل كان صاحب فكر قومي متحرر وكان يشارك في جميع الندوات والمؤتمرات التي تعقد في العديد من دول العالم نصرة للقضية الفلسطينية وكان يردد على الدوام أن أفضل وسيلة لمقارعة العدو الاسرائيلي هي المقاومة الشعبية بسبب ما حصلت عليه اسرائيل من أسلحة ومعدات حربية متطورة من الدول الغربية فاقت في حجمها وتاثيرها جميع الدول العربية مجتمعة.
وقد أثبتت الأحداث أن المقاومة الشعبية هي الوسيلة الانجع والانجح لمقارعة العدو الإسرائيلي وهذا ما لمسه الجميع في انتفاضتي الحجارة الاولى والثانية في الضفة الغربية وقطاع غزة وهو ما تأكد فعليًا مؤخرًا وبصورة جلية واضحة حيث احرزت المقاومة الاسلامية انتصارات جلية وواضحة على العدو الإسرائيلي وبخاصة في قطاع غزة.
واستذكر هنا بحكم عملي في الصحافة والاعلام ما صرح به رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي سيء الذكر اسحق "شامير " سئل عن الشخصية العربية التي كانت تهدد الكيان الاسرائيلي حيث قال بالحرف الواحد: "كان وصفي التل هو الشخصية العربية الأخطر على إسرائيل لأنه كان يدعو دوماً الى اعتماد المقاومة الشعبية ضد اسرائيل".
وشكّل وصفي التل حكايةٍ أردنية رائدة واضحى اليوم مثالًا للسيرة الحسنة التي لا تزول مع تقادم الزمان... ملامح سيرة وصفي انه بادل الوطن والقيادة وفاءً بوفاء
لقد كان وصفي التل درة في جبين الوطن وأحد جنوده البواسل الذين خدموا الوطن مع غيره من الالاف من الشرفاء الاردنيين.
ان الشهيد وصفي التل هو ابن شاعر الاردن الاول والكبير مصطفى وهبي التل صاحب المواقف الوطنية الخالدة وامه كردية من شمال العراق من مدينة تكريت حيث شهدت تلك المدينة ولادة القائد الاسلامي الشهير السلطان صلاح الدين الايوبي الذي حرر مدينة القدس والمسجد الاقصى وبعد احتلالٍ استعماري استمر ٩٠ سنةً وفي تكريت ولد وعاش صدام حسين الذي قضى شهيدًا دفاعاً عن فلسطين والعراق والبوابة الشرقية للوطن العربي وكان اول من قصف اسرائيل بالصواريخ لأول مرة في تاريخها.
لقد تعرفت على وصفي التل في دار مجلس الامة صدفة في مكتب النائب الشهير عمران المعايطة حيث كنت ابحث عن عمل وبعد ان عرفني قال انك اخوال ابي حيث ان جدته لابيه من بنات البرارشة في قرية عي محافظة الكرك حيث بادر بالاتصال مع مدير الاذاعة آنذاك المرحوم نزار الرافعي الذي تولى تعييني في دائرة الاخبار في الاذاعة عام ١٩٦٧ وبعدها كلفني وصفي التل رحمه الله بالعمل معه سكرتيرا صحفيا لمدة ٦ اعوام عملت بعدها بنفس المهمة في دار رئاسة الوزراء والديوان الملكي لمدة ٣٠ عاماً صباحا في الرئاسة ومساءً في الديوان الملكي.
ونستذكر قافلة من ابناء الاردن الشرفاء الذين ضحوا وعملوا من اجل الوطن بكل اخلاص يتقدمهم شهيد الاردن وفلسطين المرحوم هزاع المجالي (ابو امجد) الذي اغتيل بعد ايام من اقتراح قدمه الى مؤتمر وزراء خارجية الدول العربية الذي عقد في مدينة شتورة في لبنان عام ١٩٦٢ وتضمن الاقتراح مطالبة الدول العربية بانشاء كيان سياسي فلسطيني مستقل يتولى الدفاع عن القضية الفلسطينية في مواجهة اسرائيل.
كما نستذكر بقية الشرفاء ومنهم الدكتور مصطفى خليفة والمشير حابس المجالي قائد معركة باب الواد الذي تولى اسر شارون ونقله الى سجن المفرق العسكري ونذكر كذلك اللواء قاسم المعايطة وملحم التل وعبد الوهاب المجالي وعمران المعايطة ودولة احمد اللوزي واللواء كاسب الصفوق ودولة احمد طوقان والنائب يوسف العظم وأنور الخطيب (محافظ القدس) والشهيد منصور كريشان والعميد عاطف الرفيفان والوزير رياض المفلح و النائب العوران و محمد عودة القرعان و المحامي رشود الهواري واللواء عطالله غاصب واللواء غازي عربيات والعقيد عبدالمجيد خلف القراله والمحامي نزار الرافعي المعلق السياسي وامين ابو الشعر و الشاعر عبد الفتاح حياصات والشاعر سليمان المشيني والشاعر حبيب الزيودي وعبد الحليم النمر وعلي ابو نوار وعلي الحياري والشيخ سالم ابو الغنم والشيخ معارك المجالي واللواء زهير ذوقان الحسين والدكتور اسحاق الفرحان ومحمد عبدالرحمن خليفة واللواء احمد علاء الدين والعميد عبدالحميد النعيمي واللواء انور محمد وغيرهم من رجالات الوطن الشرفاء الذين قدموا أرواحهم خدمة للوطن واهله.
لقد ذكرنا الاموات فقط لضيق المكان