الأردنيون يحيون اليوم ذكرى مرور نصف قرن على استشهاد وصفي. أصبحت "الكمالية" رمزاً وطنياً سامياً عالياً. اليوم يتوجه النشامى إلى بيت "أبو مصطفى" الذي كان أكبر من حجم رئيس وزراء، أصابته رصاصات في مكان جرحٍ عانى منه جسده، وهو يقاتل على أرض فلسطين مع جيش الإنقاذ، ليتساوى - للأسف - الرصاص، وإن اختلفت الفوهة، وجِلدة من ضغط على الزناد.
يحيط الأردنيون بروح وصفي لأنهم اتخذوا قراراً مصيرياً واحداً موحداً؛ أن لا يسمحوا باغتياله ثانية، أو ثالثة - كما قال عدنان أبو عودة - فقد اغتيل وصفي في المرة الأولى بعد أن جاء رئيساً للحكومة من خارج النادي السياسي، أو من خارج أوساط تقليدية احتكرت السلطة في بدايات الستينات من القرن الماضي. حاولوا اغتيال "السياسي".
وكان وصفي يمكن أن يستشهد يوم التاسع والعشرين من آب عام 1960 بصحبة شقيقه في الشهادة هزاع المجالي، فمكتب وصفي كان مجاوراً لمكتب رئيس الوزراء عندما عمل مديراً لإدارة التوجيه المعنوي. منذ ذلك اليوم فهِم الرجل الرسالة، وأدرك شراسة المعركة. معركة الوطن، وبقاء النظام، واستمرار الدولة، ولذلك قال إن المؤامرة التي استهدفت هزاع "ما أضعفتني"، و"بجوز أنا أكون ضحية"، ويبدو أن عرار كان يعرف مصير ولده، يوم قال: "ودرب الحر يا وصفي، كدربك غير مأمونة".
الكلام في وصفي يطول، يطول ويطول. فهو صاحب مشروع نهضوي. أقرب رئيس وزراء في تاريخ الأردن إلى قلب الشعب. أردنيته لم تعنِ لحظة في حياته، الإقليمية. فلسطين كانت قضية شخصية بالنسبة إليه قبل أن تكون وطنية. الفلسطينيون بالنسبة له "أهلنا الغرابا"، ونهر الأردن هو "الشريعة". رأى في وحدة الضفتين لحظة وحدوية وتاريخية طالب بالحفاظ على إرثها. صاحب رؤية سياسية واجتماعية واقتصادية خلاقة. البندقية والفأس كانتا السلاح الذي يرى أن على رجالات الأمة حملهما، والوحدة والحرية هما الهدف، والاعتزاز والاعتداد بالهوية، ولذلك قال إن أهل الأردن من أحسن العرب، ومن أوعاهم، وأشدهم وطنية. وصفي كان يقول: إخوتنا المواطنين في معسكرات اللجوء"، هو الذي أرسل إلى صديقه المقدسي برهان الدجاني عام 1950 رسالة كتبها له من فلسطين، يطالبه بالعودة، وهو يسأل نفسه: "لماذا ينتابني شعور بالاستعلاء جارفٌ، وأنا أكتب لك من فلسطين"، ويقول لصديقه: "تعال وتلمّس النكبة بنفسك، ولا تيأس، ولا تتُلق سلاحك، تعال، ولتكن أنت الدرع مرة أخرى، لصد العدوان، واسترجاع ما ضاع من الديار".
قلت إن الكلام في وصفي يطول. حبيب أبيه. العراري الأول. وطأت قدماه أرض الوطن مع أمه "منيفة بابان"، وهو في الرابعة من العمر عام 1924، بعد أن تسلمت أمه وهي في كردستان، صورة من زوجها وهو في إربد، صورة لعرار كتب خلفها "إلى ولدي الذي بلغ من العمر أربع سنين، ولم أر وجهه. إلى من حوله يدور محور أحلامي في الليل، وموضوع أفكاري في النهار. إلى من تحن إليه مرآة روحي، ويشتاق قلبي. إلى ولدي أقدم رسمي هذا".
تخرج وصفي في مدرسة السلط الثانوية بتفوق، وخرج إلى بيروت كما المناضل حمد الفرحان، والدكتور خليل السالم محافظ البنك المركزي فيما بعد، البنك الذي أسسه وصفي في حكومته الأولى التي شكلها عام 1962، ليدرس الفيزياء والعلوم في بيروت، وليس الفلسفة كما يشاع في بعض المصادر، وقد أنشأ وصفي ميناء العقبة، والجامعة الأردنية، وحقق للبلاد اكتفاء من القمح يوم وقف إلى جانب المزارعين يدعمهم بالبذار والأموال والتشجيع.
كان رحمه الله معجباً بأهل الخليل. رأى أنهم أفضل المزارعين. كان يقول: تعلّموا من الخلايلة، إنهم يزرعون في الصخر دوالي العنب. وعندما أقام مزرعته في قصر الحلابات، استحضر مزارعين من الخليل للإشراف على الزراعة.
خرج وصفي في صباح أحد الأيام في اتجاه مبنى رئاسة الوزراء في عمان قادماً من بيته في الكمالية. شاهد حفرة في الشارع تتجنبها سيارة، وتقع فيها أخرى. أوقف سائقه، ونزل، واتصل بالجهات المعنية، وقال لهم: لن أغادر إلا عندما ترسلون إلي فريقاً يطمُر هذه الحفرة ويتم تعبيدها، ولم يغادر رغم طول الانتظار إلا بعد أن وصل فريق عمل وأنجز المهمة. هكذا كان وصفي يعتني بالحفر الكبيرة والصغيرة. رجل يكره الميوعة. سعى إلى خلق "الوطن النموذج". قال في بيانه الوزاري لمجلس الأمة: "حكومتي خادمة". وصفي هو رئيس الوزراء الوحيد في تاريخ البلاد الذي يُحمل على أكفّ السجناء، يوم أطلق سراح المعتقلين السياسيين والعسكريين، وحتى الشيوعيين، وطالب بتبييض ملفاتهم، وإحراقها في جهاز المباحث. رفض التفريق بين الرجعي والتقدمي. رفض الثورة العنيفة، وفرض الرأي بالقوة والإرهاب، والمساس بأمن الدولة، وكيانها ونظامها، ورأى أن من أوجه "الهدم ونكران الجميل هو التشكيك بقيم هذا البلد، والاستهانة بقوانينه وأنظمته"، وهو الذي ضرب المثل في حسن استخدام الأردن لموارده المحدودة.
كان وصفي إلى جانب الملك الحسين طيب الله ثراه مع خلية الأزمة في حرب الحفاظ على الدولة والوحدة الوطنية، وتفويت الفرص على قوى إقليمية كانت تتربص بالأردن، ودَفع بعد تشكيل حكومته الثالثة ثمن النضال من أجل الوطن والأمة. وصفي هو شهيد الضفتين، لا شهيد ضفة واحدة، وهو ابن فلسطين أكثر من كثير من أبناء فلسطين. وصفي غُيِّب "كي يُخفوا الذي فعلوه في وطنٍ لخيل الله فيهِ صهيلُ". صدق حيدر محمود: "وصفي شهيد الضفتين، وفيهما مُهجٌ يَصولُ بها الهوى ويَجولُ". رأى أمته على نحو لا سائل فيها ولا مسؤول، وهو الذي قال: حاميها حراميها. نعم، أمة تحمي بأيديها أعاديها. تلك عبارة من قصيدة "يا خال عمار" التي يلقيها اليوم في "الكمالية" شاعر الأردن الكبير حيدر محمود عند ضريح خال ولده وصديق عمره.
يا من تقفون اليوم عند ضريح وصفي: سلّموا عليه، وصلّوا. صلاتكم مقبولة، ودعاءكم مقبول. حفظ الله الأردن، ورحم الشهداء
الدستور