الخلل الشارد في معادلة السكان والموارد
د. م. منذر حدادين
25-11-2021 12:09 AM
هرعت مع لفيف من ابناء الوطن لتلبية ندائه وخوض معركة السلام مع أعدائه، كان ذلك في تشرين الثاني من عام 1991 قبيل ابتداء جولات المفاوضات الثنائية بين الأردن وإسرائيل. وكان العبء الذي ألقي على كاهلي هو قيادة التفاوض على المياه التي كانت إسرائيل تستعمل أجزاء منها دون رادع يليق. وارتأيت أن أضع المياه في سلة مع موضوعين آخرين هما الطاقة والبيئة لتلازمهما مع المياه وكأنها تمائم ثلاث. وكان ما كان من استردادنا للمياه الأردنية ويزيد، وأعني بذلك مياه المملكة بعد قرار فك الارتباط عام 1988. إذ لا سلطة لممثلي المملكة تخولهم الحديث عن مياه الضفة الغربية فهي «لها رجالها» كما عبّر عن ذلك في اجتماع رسمي حضرته في لندن المغفور له الملك الباني الحسين بن طلال طيب الله ثرى كلٍ منهما.
وموارد بلادنا من المياه تتحكم بها الطاقة، من طاقة الشمس التي تعمل على تبخير المسطحات المائية وترفع أبخرتها إلى عنان السماء بطاقة الحمل، وتتشكل السحب من تآلف الأبخرة هذه ودرجات الحرارة (طاقة) في طبقات الجو لتتشكل السحب فتسوقها طاقة الرياح إلى اليابسة وتتكثف بفعل التناغم الحراري مع الرطوبة في السحب فتهطل أمطاراً على سطح الأرض بفعل طاقة الجاذبية وتتسرب بفعل نفس الطاقة لتختزن رطوبة في التربة ومياهاً سائلة في الخزانات الجوفية وبفعل طاقة الجاذبية تعود مياهاً سطحية إلى المسطحات المائية من حيث أتت، وتكتمل دورة المياه في الكرة الأرضية. وتأثير هطولها على البيئة جليٌّ وواضح، في أساس كل شيء حي.
لكن حظنا كبلد مصنف شبه جاف أن تختطف طاقة الشمس منا زهاء 80,5% من الهاطل المطري ليتبقى 19,5% منه للاستعمال ويتعرض هذا الباقي للتبخر أيضاً لدى استعماله بفعل طاقة الشمس والرياح.
ويقدر معدل الهطول المطري السنوي على أراضي المملكة بحوالي 8,2 بليون متر مكعب، فيتبقى للاستعمال منها 1,6 بليون على شكل مياه خضراء (رطوبة في التربة تدعم الزراعة البعلية والمراعي) تكافئ 866 مليوناً، ومياه سطحية معدلها 554 مليوناً ومياه جوفية معدلها 198 مليوناً، ترفدها مياه متجددة من الجوار على شكل مياه جوفية من سوريا بمعدل 77 مليوناً ومياه سطحية من سوريا ومن بحيرة طبريا مجموعهما بموجب المعاهدات 352 مليوناً. ثم تأتي مياه الصرف الصحي المعالجة بمعدل 120 مليوناً، ومياه تتسرب من شبكات المياه إلى الجوف بمعدل 70 مليوناً في السنة. أي أن معدل رصيد المملكة من المياه العذبة المتجددة يناهز 2047 مليوناً ومن مياه بنوعية متدنية حوالي 190 مليوناً، أي بمجموع كلي مقداره 2237 مليون متر مكعب في السنة. وبعدد سكان يوشك أن يتجاوز 11 مليوناً يكون نصيب الفرد 203 امتار مكعب للعام 2022.
والأردن من البلاد ذات الاقتصاد المتوسط الداني Lower Middle Income Economy، ويحتاج الفرد في بلاد اقتصاد كهذا إلى 1700 متر مكعب سنوياً لأغراض انتاج الغذاء (1500) وللأغراض البلدية والصناعية (200). ومن سردنا هذا يتضح أن لدى الأردن زهاء 12% مما يحتاجه من المياه للأغراض الثلاثة هذه ناهيك عن الاحتياجات الأخرى كالبيئة وتوليد الطاقة والملاحة النهرية. ونسبة الكفاية هذه تشي بالخلل الفاضح في ميزان الموارد الواضح قياساً بالسكان.
ورب سائل بل وجب السؤال، ما دام الحال على هذه الدرجة من الفقر فكيف لا نسمع استغاثات الناس وشكاواهم؟ والجواب أن استيراد الغذاء هو الذي يعالج الخلل، فالغذاء ما هو إلا حامل لمياه الظلال وهي ما يوفره علينا من مياه (غير متوافرة لدينا أصلاً) ولو أننا اعتدنا على سماع شكوى المستهلكين للمياه البلدية فخلل تزويدها تعالجه الشركات المختصة بالتقنين القاسي أحياناً.
ولا يجوز التركيز على الخلل في ميزان موارد المياه دون الحديث عن خلل أقسى في ما يتوفر لنا من موارد الطاقة. فبلدنا يستورد ما ينوف على 97% من موارد الطاقة، وينتج منها النزر اليسير حالياً، وتعثر في استغلال الموارد الهائلة للطاقة وأعني بها الصخر الزيتي، علّ الحكومات تنهض من كبوتها في هذا الصدد. ولي في ميدان الطاقة والبيئة والمياه صولات وجولات في اللقاءات وفي المؤتمرات.
أعطني طاقة أعطيك مياهاً وبرهان ذلك بالدورة الطبيعية للمياه سالفة الوصف، أما البرهان التكنولوجي فهو تحلية المياه المالحة ولزوم ذلك مدخل الطاقة، وتتداخل البيئة في الدورة الطبيعية وكذلك في استخدام التكنولوجيا الحديثة.
والحقيقة التي يتوجب إظهارها هي أننا مرتهنون لبلاد غير بلادنا في تزويدنا بالغذاء (أي مياه الظلال) وبالطاقة بأشكالها الوقود السائل والغاز الطبيعي وحتى الكهرباء. وهذه الحقيقة ترتبت على بلدنا منذ أوائل الستينات، فهي إذن ليست علينا بجديدة. أما الجديد الواجب توجيه أقصى العناية به فهو توفير المياه لأغراض الشرب والصناعة ولأغراض الزراعة ما أمكن، على أن تكون أكلافها للمستهلكين في متناول قدرتهم على مواجهتها.
وأهدف من سردي هذا القول إن لدينا ما يكفينا من مياه وطاقة والموجود منهما في البلاد كفيل بتمكيننا من الاعتماد الذاتي لتوفير كليهما. أما توفير الطاقة (ومع توفيرها يمكن توفير بعض الماء الصالح للشرب) فيتأتى باستغلال الصخر الزيتي المتواجد بكثرة في البلاد ويمكن استخراج الوقود السائل والغاز منه مع بعض الماء، كما يمكن توليد الكهرباء بالحرق المباشر والاستعانة بالماء لتشغيل المراجل وتدوير المولدات الكهربائية. والتكنولوجيا لاستخراج الوقود السائل منه بكلفة مجدية موجودة بفضل اختراعات حديثة جداً، كما أن توليد الكهرباء بالحرق المباشر معمول به في أستونيا وفي الأردن من مشروع العطارات.
والوسيلة الثانية إلى جانب الحرق المباشر هي استغلال الطاقة الحرارية الجوفية المكتنزة في المياه الجوفية العميقة وخاصة في البادية الشمالية الشرقية، وتحويل الطاقة الحرارية هذه إلى طاقة كهربائية والاستفادة من المياه المستخرجة.
أما المياه فتواجدها في طبقة الصخر الرملي العميقة والتي تتواجد تحت كافة مناطق المملكة باستثناء المناطق التي تبرز فيها للسطح الصخور البركانية كالجبال التي تحد وادي عربة من الشرق من منطقة العقبة جنوباً إلى قبر هارون في جبال البترا شمالاً. وطبقة الصخر الرملي هذه تتواجد بسماكات كبيرة مختلفة وهي مشبعة بالمياه، وترتاح على الصخور البركانية المصمتة المتواجدة تحتها. واستقصاء هذه المياه كماً ونوعاً عالي الكلفة لكن الإنفاق لذلك مبرر وتتحمله خزينة المملكة ذلك بسبب أن الجهات المقرضة لا تموّل مشروعات استقصائية.
وقامت جهات رسمية حكومية (سلطة المصادر الطبيعية) باستقصاء مياه الصخر الرملي في منطقة الديسي عام 1968 ووجدتها عذبة وقريبة من سطح الأرض وقامت الحكومة في أوائل القرن الحالي بنقل مياه منها إلى الشمال بمعدل 100 مليون متر مكعب سنوياً تستهلك في عمان ومدن أخرى. وقامت سلطة المياه عام 1998 بحفر بئر عميقة وصلت تلك الطبقة في حوض وادي الدبة على طريق القطرانة–الكرك وكانت المياه عذبة، لكن نبعة من تلك الطبقة تفجرت منذ القديم من الزمان في وادي الموجب مياهها مالحة ما حدا ببعض المختصين إلى الحكم بأن مياه الصخر الرملي مالحة، لكن سلطة المياه توصلت إلى سبب الملوحة وكان السبب محلياً بوجود طبقة من الطين المالح (مثل الكتار) تجتاز محيطها المياه من تلك الطبقة وتجترح من محتوياتها المالحة قبل أن تتدفق نبعاً في وادي الموجب.
ويجب التنويه أن مياه الصخر الرملي غير متجددة وأنها مياه تاريخية لكنها تفي بالغرض إلى أن يتم اختراع جديد لتوليد الطاقة سيكون المرجح بتكنولوجيا الالتحام النووي.
ثم عملت وزارة المياه والري مشكورة بحفر ست أو سبع آبار عميقة في وادي السرحان وفي باير وجنوب الأزرق نقلت جميعها أخباراً سارة بأن مياه تلك الطبقة عذبة. وكان لشركة مناجم الفوسفات دورٌ رائد في الوصول إلى الصخر الرملي في منطقة الحسا بحفر بئر عميقة لمواجهة احتياجاتهم هناك وبترخيص من سلطة المياه وكانت المياه عذبة.
وأردفت شركة مناجم الفوسفات جهودها بحفر آبار في مناجم الشيدية إلى الجنوب الشرقي من مدينة معان وكانت المياه على أعماق سحيقة إلا أن الضغط الذاتي فيها رفع سطحها إلى 300 متر تحت سطح الأرض وكانت مياهاً عذبة.
كل هذه النشاطات ترجح أن تكون مياه تلك الطبقة عذبة من حدود المملكة الجنوبية والشرقية مع السعودية وحتى منطقة الأزرق، ويلزم حفر آبار أخرى لتأكيد هذه النتائج المؤملة. لكن حتى لو كانت المياه في بعض مناطقها مالحة فتحليتها أرخص بمراحل من كلفة تحلية مياه البحر الأحمر ونقلها إلى المراكز الحضرية. وتفي مياه هذه الطبقة باحتياجاتنا للمياه البلدية ومياه الصناعة وبعض مياه الزراعة لسنوات وعقود، ولكننا سنستطيع العزوف عن استعمالاتها لدى انتهاء العمر التشغيلي لمشاريعها، ذلك لأن اختراعاً جديداً يولّد الطاقة النظيفة ستأتي به العقول المتخصصة في موعد لن يتجاوز عقدين أو ثلاثة ويمكننا هذا الاختراع من استعماله لتحلية مياه البحر وضخها بكلفٍ معقولة. وجهود كهذه تبذل منذ سنين من قبل الاتحاد الأوروبي ومن قبل الولايات المتحدة واليابان.
وهناك عوامل سياسية تحدو أصحاب القرار عندنا من ولوج مسارات ليست على مستوى التفضيل الشعبي، وهي مسارات مفهومة لكل ذي بصيرة، ولكل من ينظر إلينا وإلى أوضاع أشقائنا في المنطقة. وتبرير هذه المسارات تبرير سياسي اقتصادي ومالي، ويقيني أن مصلحة البلاد باعتبار هذه العوامل تسود دوافع ساستنا وصانعي القرار عندنا.
والله من وراء القصد.
(الرأي)