المطبوعات .. منطق الحرية ومنطق الوصاية
حسين الرواشدة
13-07-2010 04:17 AM
حين منع كتاب (حبر الشرق) الذي ترجمه الصديق الدكتور جمال الشلبي للمفكر الفرنسي (شفاليه) وقبله كتاب الداعية السوداني (النيَّل ابو قرون) ومعهما نحو مئة وخمسين كتاباً في العام الماضي ، قلت ان هذه المقررات غريبة على بلدنا ، وبأنها لا تليق بصورتنا التي نحاول ان نضعها في اطار الاصلاح والانفتاح ، وحرية الرأي والفكر والتعبير ، وما يترتب على ذلك من سماحة وحسن ظن وبعد عن (التفتيش) في النوايا ومحاكمة العقول والأذهان وفرض الحجر عليها.
في غيبة الحرية يُصاب الفكر (بالكُساح) والشلل ، ومع اتساع حقول الاسيجة والممنوعات يبحث الانسان عن (ابواب) قد لا تكون مشروعة لتعبير عن نفسه ، واذا كانت ثمة سمة امتازت بها حضارتنا فهي اعلاء قيمة الحرية: حرية الفكر والنظر ، وحرية المعتقد والرأي ، بل وحرية (الكفر) ايضا ، ولولا وجود هذه الحرية لما وصلتنا كتب الزنادقة ، ومناظرات اتباع الاديان ، بل ان تراثنا العربي ، بما فيه من مضامين ابداعية ، يبدو متقدماً كثيراً على انجازاتنا (الابداعية) اليوم اذا ما اعتبرنا ان (الحرية) هي المعيار والمؤشر والحكم.
في بلادنا ، كانت دائرة المطبوعات والنشر تتولى مسؤولية (الحكم) على الفكر ، فتمنع نشر ما تراه متعارضاً مع (اجتهاداتها) الفكرية او الدينية او السياسية ، ثم جرى تعديل قانونها فاصبحت مخولة بمنع توزيع الكتب واصدارها استناداً الى (مادة) في القانون تسمح لها باقامة دعاوى قضائية ، وتوسعت - للأسف - في ذلك حتى أصبحت مقرراتها (سيفاً) مصلتا على الابداع ، وقد ناقشنا المسألة آنذاك وسجلنا تحفظنا على منع كتب لم تتضمن شيئاً يسيء الى وطننا او ديننا او حتى - أعرافنا وتقاليدنا - ، لكن اخواننا تمسكوا آنذاك برأيهم ، وتحولت الكتب الممنوعة الى اكثر الكتب مبيعاً وانتشاراً ، رغم ان بعضها متواضع جداً كما تحول (بعض) الذين مُنعت كتبهم الى (ابطال) ، تلقفتهم المنابر الخارجية فاصبحوا - بسبب المنع لا غير - في مقدمى (المبدعين) المشهورين. وبذلك صبت قرارات (المنع) في الاتجاه المعاكس تماماً لاهدافه وبدل ان يترك للقارئ حق الحكم على ما ينشر من ابداع او غيره استاثرت (المطبوعات) بهذا الحق ، وتعسفت فيه ايضا.
الان ، يبشرنا مدير المطبوعات والنشر ، الصديق عبدالله ابو رمان ، بان (زمن المنع قد ولى) ، وبان مهمة الدائرة هي تسهيل وتيسير (النشر) والتوزيع لا تعقيدها وضع العراقيل امامهما ، وهذا خبر جيد بالتأكيد ، وان كان امتحانه في (التطبيق) طبعاً ، والحكم عليه سابق لأوانه ، لكننا نثق بما قاله ووعد به لاننا نعرف ان ما ولّدته التجربة السابقة من مرارات وانتقادات ، وما تمخضت عنه من نتائج تفرض على الدائرة ان "تغير" منطق تعاملها مع هذا الملف ، وان تخرج نفسها من دائرة (الوصاية) على الفكر والابداع ، وان تبحث عن مهمات اخرى تتناسب مع المستجدات التي طرأت على العالم في مجالات الاتصال والنشر وتوزيع الكتب وتداول الافكار ، وأفول الرقابة وعجزها عن (تقييد) حرية الناس.
أعرف - بالتأكيد - ان ثمة مواد في قانون المطبوعات تفرض على الدائرة ان تمارس مهمة (الرقابة) والمنع ، باعتبار ان من حق اي مواطن ان يرفع قضية امام القضاء لاتهام (المطبوعات) بالسماح في توزيع كتاب (اساء للحياء العام مثلا..) لكنني لا اتحدث هنا عن (التجاوزات) الفاقعة التي تتضمنها بعض الكتب ، وتشكل - بالمطلق - اساءات لمعتقدات الاخرين او تعدياً على حقوقهم او اساءة لمشاعرهم ، وانما اتحدث عن (الابداع) والاجتهاد والبحث العلمي او (حرية الفكر) المضبوطة بموازين العقل والعلم والاخلاق ، هذه لا يجوز ان (نمنعها) او نحاصرها حتى وان كانت تخالف وجهات نظرنا او تتعارض مع (تراثنا) او ما استقر في افهامنا.
مهمة اخينا (أبو رمان) ليست سهلة ، وان كانت ضرورية ، ونجاحه فيها يعني اننا تجاوزنا سجالا طويلا حول الحرية وعلاقتها مع (الابداع) ومع الاصلاح المنتظر ، وحسمنا خياراتنا باتجاه منطق العصر الذي يرفض مبدأ الوصاية والمنع واحتكار الصواب.
الدستور