الطفيلة البهيّة .. أرض الحكايات والأسرار والكنوز الخفيّة
ايمان مرزوق
21-11-2021 03:56 PM
بصمتٍ تناديك.. لتروي حكايا العتَبِ والتّعب.. شامخة الجبين.. لا تلينُ إلا لِكُلِّ قلبٍ مُحِب.. كأهدابٍ أمٍّ تبللت وهي تلوِّح لأبناءٍ غادروها لطلب رزقٍ بعيد.
الطفيلة.. كانت وجهتنا في المسار التراثي الثاني من برنامج (حكاية مكان) الذي أطلقته مديرية التراث في وزارة الثقافة بالتعاون مع وحدة شؤون المحافظات ومديريات الثقافة في المحافظات.
قلعة الطفيلة
قلعة الطفيلة كانت نقطة البداية للمسار الذي انطلق يوم الخميس 18/11/2021 برعاية ومشاركة وزيرة الثقافة هيفاء النجار وبحضور مُحافظ الطفيلة د. محمد أبو رمان، ومدير ثقافة الطفيلة د. سالم الفقير، ومدير مديرية التراث فراس المصري، ومديرة سياحة الطفيلة خلود الجرابعة، ومدير محمية ضانا للمحيط الحيوي المهندس عامر الرفوع، ومجموعة من أبناء المجتمع المحلي، والإعلاميين والكتاب والفنانين والمهتمين بالشأن الثقافي.
يتربع هذا البناء على التل الشمالي الغربي لمدينة الطفيلة ويحيط به السوق بمبانيه التراثية القديمة بطرازها المعماري المميز، ومن المرجح أن القلعة قد أقيمت على أساسات من الفترة الأدومية، وتم استخدامها كحصن عسكري في الفترات المملوكية والعثمانية. رغم صغر مساحتها لكن الجزء المخفي منها تحت الأرض يمتد بعيدا عبر الآبار المرتبطة بعيون الماء البعيدة، والأنفاق التي لم يُستكمل اكتشافها بعد.
"السّلْع".. قلعةٌ وقريةٌ ومسلّةٌ البابلية
للوصول إليها عليك أن تعبر طريقا متعرجا شديد الانحدار في إطلالة تحبس الأنفاس على جبال الشراه الشاهقة، مرورا بقرية "السَّلْع" القديمة التراثية التي هجرها أهلها ليسكنوا "عين البيضا" سعيا وراء خدمات أفضل (باستثناء بعض البيوت التي تم إعادة ترميمها لاستقبال السياح). وصولا إلى السيق الحجري الذي يمتد مسافة 17 مترا ليُفضي إلى أرض مستوية تصلنا بمدخل "القلعة" التي لا تشبه أيا من القلاع؛ فليس هناك بناء واضح المعالم.. بل هي هضبة رملية شديدة الانحدار تصعدها عبر الأدراج المنحوتة في الصخر لارتفاع يصل نحو 400 متر، وفيها نُحتت الكهوف والآبار وأبراج المراقبة وأنظمة الري القديمة، وغيرها من المعالم الأثرية التي تعود للفترة الأدومية والنبطية. وتُطلق كلمة (السَّلْع) في اللغة على الشّق في الصخر ومن هذا المعنى كانت التسمية تصف المكان حرفيا.
وربما تكون المسلة البابلية المنحوتة على الواجهة الجنوبية الشرقية للهضبة بمساحة 6 متر مربع، وعلى ارتفاع نحو 35 مترا عن الأرض، وعلى بعد 10 أمتار من القمة؛ هي أغرب المعالم التي قد تشاهدها في المكان، وفيها يظهر الملك البابلي "نابونوئيد" وهو يحمل بيده الصولجان، وأمامه ثلاث رموز هي: القمر والنجمة والشمس، ونقش بالمسمارية يعود إلى الفترة (930-555) قبل الميلاد.
وقبيل مغادرتنا للقلعة أمتَعنا العم "عبدالله العوادين" بغنائه وعزفه على آلة الربابة بألحان شجية تناغمت مع روح المكان وأضافت للمسار نكهة تراثية مميزة.
ولدى عودتنا من القلعة كان بانتظارنا إفطار "بلدي" شهي في مركز زوار السّلْع، مكون من أطباق صُنعت بِحُب من خيرات الأرض وبيدي أبناء المجتمع المحلي (قلاية بندورة، غَبيب/ لبنة، زيت وزعتر، زيتون، مجدوس، سمن وزبدة بلدية، مع خبز بلدي..).
ضريح الصحابي الحارث بن عمير الأزدي وحكايته مع معركة مؤتة
محطتنا التالية كانت في بصيرا وزيارة لضريح الصحابي الجليل الحارث بن عمير الأزدي الذي أرسله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بكتابٍ إلى ملك بصرى يدعوه إلى الإسلام، وفي الطريق اعترضه شُرحبيل بن عمرو الغَسّاني، ولما علم بأمره أسَرهُ وقام بقتله، ولم يُقتل لنبي الله محمد رسولا غيره، وكانت هذه الحادثة السبب المباشر في حدوث معركة مؤتة، وهي أول غزوة يخوضها المسلمون خارج حدود الجزيرة العربية عام (8 هجري/629 ميلادي). وانتهت المعركة بعد قيام القائد خالد بن الوليد بانسحاب تكتيكي ناجح بأقل الخسائر، واستشهد في هذه الغزوة القادة المسلمون الثلاث الذين اختارهم النبي لقيادة المعركة وهم على الترتيب: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة.
شجرة الطيّار
استكملنا المسار بحثا عن قصة أخرى حتى وصلنا إلى موقع (شجرة الطيار) التاريخية المُعمرة في القادسية (نسبة إلى الصحابي جعفر بن أبي طالب)، وتقول الروايات أن الصحابي قد استظل تحتها برفقة قادة الجيش في الطريق إلى غزوة مؤتة. عانقتُ الشجرة وكذلك فعل آخرون ممن يؤمنون بالطاقة التي تمنحنا إياها الأشجار عند معانقتها!.. ورغم حرص بلدية القادسية على إعادة تخضير الشجرة، والمحافظة عليها، وبناء سور حجري حولها، وإحاطتها بشبك حماية لحمايتها من الرعي الجائر، وسقايتها، إلا أن آثار الاعتداءات البشرية بدت واضحة على جذعها العملاق الذي تم تشويهه بالكتابات والرسوم!
ضانا سيدة الدهشة الجبلية
ودّعنا الشجرة على أمل لقاء قريب.. واتجهنا مثل "الفاردة" بطريق ضيق عبر أراضي "البَرّة" باتجاه محمية ضانا "سيدة الدهشة الجبلية".. وصلنا قرية ضانا التراثية القديمة التي يعود بناؤها للفترة العثمانية، تجولنا بين بيوتها التي رُمم بعضها ليكون غرفا لمبيت السياح. رافقنا هناك "العم أبو يحيى" ابن ضانا البار الذي يأبى مفارقتها حتى أصبح هو ذاته مَلمَحا حيا من ملامحها.
استَمَعَت له وزيرة الثقافة هيفاء النجار بكل تقدير واحترام وإعجاب، ودار بينهما حوار صادق لا يخلو من الطرافة والبساطة والعمق في آن معا.. خاصة ما جاء على لسانه بالإنجليزية حول:
"النيو جينيريشن"! كما أضاف أنه يوجه تحية للمرأة، لتؤكد النجار على أهمية علم الموروث وأهمية ربطه بالأجيال الجديدة قائلة: أنا أطمئنك.. أنتَ اليوم جزءا رئيسيا من مستقبلنا ومستقبل أحفادنا ونحترم رجلا مثلك مزروعا في تراب هذه البلد الجميلة وهذه القرية.
التقطت المجموعة كثيرا من الصور عند مطل ضانا "سيدة الدهشة الجبلية"، أما أنا فكنت ألتقط ببهجة غامرة ملامح الدهشة البادية على وجوه المشاركين! خاصة أولئك الذين يزورونها للمرة الأولى.
مُخيم الرمانة
مخيم الرمانة التابع للجمعية الملكية لحماية الطبيعة كان آخر نقطة في مسارنا، حيث وصلنا برج المحمية واستمعنا لشرح عن المكان من قِبل مدير محمية ضانا للمحيط الحيوي المهندس عامر الرفوع.
كنت أستمعُ لما يقول، وذهني شاردٌ، وفي القلب غصة.. هذه المحمية التي لم تَعُد محمية! بعد أحلام تعدين النحاس التي تؤرقني وتجعلني حزينة وقلقة على مستقبل هذا المكان الفريد والغني بتنوعه الحيوي، وبما يحويه من كائنات نادرة، وميزات كثيرة يصعب حصرها، تجعله مقصدا سياحيا وبيئيا هاما على مستوى العالم.
تابَعَت المجموعة المسير من البرج نزولا باتجاه المخيم بمسافة 3 كم تقريبا مشيا على الأقدام، تأمّلنا فيها جمال المكان الذي يشحن النفس بطاقة عجيبة تجعلك تشعر بالراحة والخفة وصفاء الذهن.
كان طائر الزرور أول المستقبلين لنا في المخيم.. نعم الزرزور الذي لطالما رددنا اسمه في الأغنية الشعبية" (هدّا الزرزوووور ع الشجر.. يا يُما.. سمعته بالليل يغني.. دخيل الله.. صوته يطرب النعسان.. يا يُما.. اللي بنومه متهني دخيل الله..) وهي الأغنية التي غنيناها سوية في المخيم مع الفنانة غادة عباسي التي رافقتنا في المسار؛ مع مجموعة من الأغاني التراثية الأخرى، فضلا عن عازف الربابة الذي قدم لنا وصلة ثانية، تناولنا طعام الغداء، ونحن نراقب غروب الشمس خلف الجبال، غادرنا.. ونحن نغني في حالة من الفرح الطفولي على مرأى من بدر ضانا وبَردِها الشهي! بعد يوم مليء بالدهشة والحكايا والأصدقاء الجدد.. غادرنا ولكن الشوق لم يغادرنا لأماكن كثيرة لم نزرها بعد في الطفيلة حيث التاريخ والجمال الباذخ.. الطفيلة صندوق الغموض والأسرار والحكايات التي لا تنضب.