نسجت "مليح" عبر ستين عاما من عمر عطشها صورة ايقونية لنبع ماء منحه الناس اسم قريتهم فاستقر في وجدانهم الجمعي شخصية فذة سخية حتى احتشدت ذاكرتهم بما يشبه التقديس ل"نزازة" انبلجت ماء في خاصرة قريتهم الشمالية ذات حصاد لاهب من عشرينيات القرن الآفل. ولان له عندهم صورة ايقونية مكثفة زاخرة بالدلالات التي تنطوي على عالم من احلام استثار "البير" في دواخل العطشى ميولا ارتبطت بمتخيل لمتغير قادم هم لم يعرفوا كنهه وان حدسوا آفاقه. فما ان يغادر الشتاء حتى يبدأ الناس رحيلا مع مواشيهم نحو المرابع في جهات القرية الاربع، تاركين منازل الطين للاستقرار في بيون الشعر في سهول ومرتفعات تلبس الاخضر. كان الناس ممتلئين بالحميمية الزاخرة والمشاعر الفياضة، يتكافلون في الفرح والترح، كانوا بسطاء لكنهم أكثر عمقا من شخصياتنا المركبة، لم يكونوا هامشيين بل أكثر منا حضورا في الحدث والمشهد.
وبوصفها مكانا هاجسا ذهنيا وفضاء لاشتباك معقد من الأنثربولوجيا والهوية والوعي الجمعي انتفى الزمن في مليح أصلا واصبح محملا بدلالات وموجودات ذهنية متجسدة فعليا.
استبطن الذاكرة فاجدها متماهية مع قريتي الاثيرة للنفس غير السردية في تجليها وعيانيتها. هذه القرية التي رآها صديق ذات صباح قريب وكأنها للتو انسلت من ماء جارها سيل الوالة مغتسلة عن آثار تعب طارئ، هي ما تزال روحا وثابة رغم احتشائها بحداثة قاهرة وزيف يملأ فضاءات لم تعد كتلك التي كانتها مليح القديمة.
في المخيال تتمظهر مليح مكانا اصيلا صاغ علاقات الناس واسبغ هويته على القادمين الجدد، لتكون القرية حاضنة لتكون الافكار والعلاقات وتشكلها.
اليوم قريتي تهاب الزمن خشية اغتراب وضياع يتهددانها، ويثقلان كاهلها بمشاعر الذنب. مليح تخشى التحطم وفقدان الامل بحدوث تغيير.
هناك وصل عضوي بين براءة مليح المكان وخصوصيتها وهي التي تشكلت على تخوم الصحراء لتجاورها جوار المحب العنيد. هناك زيف وجدت القرية ذاتها محاطة بهيلمانه، زيف يتهدد تمردها محاولا صياغتها من جديد لتغدو مستكينة لقدر بيرها المهجور الا من قطعان ماشية تلوذ باحواض ماء اعشوشبت جنباتها لطول غياب الماء.
مليج تمقت ساعة يصطف منتظري المعونة على بوابة بريدها متسائلة : أهؤلاء هم مني؟! ما الذي دفعهم الى هذا؟! من اطاح بانسانية اهلي ؟! أهي العولمة والخصخصة والهيكلة والانصياع لسياسة الصناديق الدولية في نهبها لبلادنا؟! مليح تمقت شبابا يتسكعون دلعا وغنجا وقد ارخوا ذؤاباتهم، هي لا تعرف بم يتولهون . تمقت هذا الضياع لانسانها المأسور للحاجة والفاقة ومغادرته منذ الصباح الباكر ليعود آخر النهار محملا بزوادة يتوهم انها تقي من جوع.
مليح تمقت ضنكا احالها شخصية مختلفة مستلبة ومنهكة في بحث مضن عن ضرورات البقاء. يقول المكان: لم اعد انا والقادم اعظم . وباستنكار يحتمل خوفا من قادم الايام يضيف: اين هم أُناس لم يتداولوا مفردات الازمة في تجلياتها جميعا؟، المعونة: قاتلة الكرامة الانسانية. وظيفة: لا تعني عملا منتجا الا ما يقيم نزرا يسيرا من الاود. تهافت القيم تحت سوط الحاجة. انتخاب "المقتدر" لاقتداره المالي ونفاقه).
هناك في مليح كان الحب دون "غثبرة" وكانت حسناوات الريف يزغردن في الاعراس و "العونة" ، في مقدم الشتاء وانتظار الربيع، في الحصاد الذي ذهب ولم يعد.
هناك في مليح شبان يذرعون طرقاتها تحت وهج الشمس بحثا عن اللاشيء الا الضياع في مطاردته للحياة .
مليح تخشى مصيرا كمثل مصير بيرها. تأنف لحظة تصير فيها مكانا لا تآلف فيه ولا انتظار دهشة . تخشى فقدان ذاتها بوصفها مكانا للحياة الجماعية. تخاف تحولها مكانا اصم لا يخترع حكايات واساطير ترددها الجدات والامهات والكبار في امسياتهم.
قريتي مكان حزين يخاف قدرا يضطره للسؤال . هي اليوم تستحضر المحظور عند عبدالمعطي حجازي : لو أنني ـ لا قدر الله ـ سجنت، ثم عدت جائعا
يمنعني من السؤال الكبرياء فلن يرد بعض جوعي واحد من هؤلاء.
.. مليح تعيش غصة لكنها تزدري "هؤلاء" فهم سبب شقائها وحزنها واغترابها.