من وحي المئوية .. مواقف مع الحسين العظيم
د. جواد العناني
21-11-2021 12:08 AM
غفر الله للملك الحسين وجعل جنات الخلد مثواه في صحبة جده الأعظم محمد رسول الله وخاتم الأنبياء.
لقد كنت من المحظوظين الذين عرفوه على فترات ومراحل متقطعة حتى عام 1993. ومنذ ذلك الحين وبشكل متواصل حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
ولكننا نستذكر هذه الأيام في عيد ميلاده السادس والثمانين، حيث ولد يوم الرابع عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1935. وقد كان باكورة أحفاد الملك عبدالله المؤسس، وأكبر أبناء الراحل الملك طلال بن عبدالله.
ولما كنت وزيراً للاعلام 1993/1994، حضر جلالته إلى رئاسة الوزراء، حيث اختلى برئيس الوزراء الدكتور عبدالسلام المجالي، ثم دعيت إلى الاجتماع. وسألني عن بعض الأمور ثم قال لي: أريدك أن تذكر في الخبر عن الزيارة انني اكدت على الهوية الأردنية التي ينضوي جميع الأردنيين تحتها من «شتى الأصول والمنابت». فقلت له يا سيدي ولماذا لا نقول الهوية الأردنية الجامعة التي تشكل الخيمة التي تظلل كل الأردنيين، وبدون ذكر كلمة الأصول والمنابت. فنظر إلي وقال ولماذا لا تريد ذكر الأصول والمنابت؟ فقلت له يا سيدي رعاك الله لم يعد يسأل الناس هل الأخ من أصول أردنية أو فلسطينية، صاروا يقولون «الأخ أصل ولا منبت؟» لم يضحك الحسين، ولكنه قال لي بعد تأمل «المهم ركز على الهوية الجامعة!!».
لم تكن القضايا الاقتصادية تستهويه بقدر ما كان مولعاً بقضايا الجيش، والأمن، والطيران، والسياسة الخارجية. ولكنه طلب من الدكتور عبدالسلام المجالي أن يشتمل خطاب العرش على تفصيلات لخطة اقتصادية. وكلفت بكتاب الخطاب فطال معي، ولكنه رغم عدم رضاه عن طول الخطاب، رأى فيه ما يوجب طمأنة الشعب الأردني بأن لدينا بدائل للخروج آنذاك من أزمتنا الاقتصادية. وقرأ الخطاب، وكان يرنو إلي بطرف عينه وكأنه يقول «سامحك الله يا أخي». ولما اعتذرت عن طول الخطاب ربت على كتفي قائلاً «الله يبارك فيك يا أخي، ما شاء الله».
ولا انسى موقفه الانساني الكبير، وهو على فراش المرض في مايو كلينيك. وقد قلت له يا سيدي ان سيدي الأمير علي يريد السفر إلى القفقاس مع كوكبة من الشباب الشركس فقال «أنت تعلم أن الوضع في روسيا غير مستتب. وهناك مناوشات في تلك المناطق». فقلت له يا سيدي «أنا اعلم أن جميع أفراد الأسرة المالكة معارضون لهذه الفكرة الجريئة. ولكن سيدي علي مصمم على ذلك». فنظر إلي وقال «أما انت موافق؟» قلت له يا سيدي إن سيدي علي شاب، وفيه الكثير من جرأة والده وشجاعته، ولكنني لن ابدي رأياً في الأمر حتى أسال. ولما عدت إلى عمان استدعيت سفير روسيا إلى الديوان الملكي العامر، وقلت له «إن سيدي علي يريد السفر إلى القفقاس» فقاطعني السفير «سلطانوف» قائلاً، «يا سيدي هذه مخاطرة والدولة الروسية لا تستطيع ضمان أمنه». فقلت للسفير محتجاً، «تقصد أنكم دولة عظمى ولا تستطيعون حماية ضيف يريد السفر إلى منطقة في بلدكم، اعتقد أن سموه سيكون عنصر تهدئة وأمن. واسمح لي أن أقول أن كلامك يا سيدي السفير يعني تخليكم عن مسؤولياتكم». فانصت السفير وقال «سوف اشاور موسكو وأعود اليك».
وفي اليوم التالي أخبرني السفير أن الأمير علي بن الحسين مرحب به في روسيا. وأن الدولة الروسية ستضمن عبوره الآمن إلى بلاد الشركس، وأمنه طوال اقامته هناك. ولما عدت إلى جلالة الملك الحسين وأخبرته بالأمر اطرق طويلاً. وشعرت بالذنب أنني أثقل كاهل هذا الرجل العظيم بهذا الهم الجديد. ونظر إلي وكأنني لمحت في عينه صورة دمعة». هذا ابني علي يا أبو أحمد. ان منعته من السفر اغضبته، وإن سمحت له وحصل له أي مكروه أكون ظلمته، فأي من الظلمين تريدني أن اتحمل؟» ثم نظر إلي وأشار بيده «فليكن، دعه يسافر».
وعدت إلى عمان، وابلغت سمو الأمير علي بموافقة ابيه على سفره راجياً اياه ألا يفعلها، ولكنه كان مصراً على ذلك. ولما اعد العدة انطلق إلى مقصده مع زملائه الفرسان من الشركس، بدا منظره وهو معتمر «الكَلْبك» وهندام الحرس الملكي الشركسي مبهراً. ولم يكن في وداعه أحد من الأسرة الهاشمية. وأشار بيده مودعاً، وغادر في ذلك اليوم الغائم الماطر. ولم يمض شهران حتى عاد الأمير إلى عمان. إذ اكتشف أن الأمر لم يكن بالرومانسية التي تخيلها على جمالها، والأنكى أن مخصصه المالي قد نضب قبل الأوان. وقد كنت قلقاً طوال تلك المدة. وكلما سافرت إلي مايو كلينيك لزيارة المغفور له بإذن الله، كان يسألني «ما أخبار علي؟» فأقول له على ما يرام يا سيدي وهو في الحفظ والصون.
لقد تربى كل ابناء جلالة الملك الحسين بدءاً من الملك عبدالله وانتهاءً بأصغر الأبناء على الشجاعة والمغامرة، وحب اكتشاف المجهول من كنوز الدنيا على أرضها، أو في بواطنها، أو في سمائها، هذه الروح الوثابة هي التي جعلت من أشبال الحسين وبني هاشم ابطالاً يكتب عنهم.
وإذا أردت أن تعرف أكثر عن الحسين ومكانته، فاستمع إلى قصص الجنود من شتى الرتب ممن أسعفهم الحظ بلقائه أو الدخول في حوار معه. وقد كانت تحصل أحياناً تطورات وحوارات طريفة جداً.
ومرة كنت جالساً على الطائرة، وإذا بسيدنا يسألني بعد تمرير معاهدة السلام الأردنية الاسرائيلية عام 1994، «كيف كان النقاش في مجلس النواب؟» فقلت له ان النقاش لم يخل من التحديات، ولكنه كان جيداً.
ومضيت قائلاً، ولكنه لم يكن يخلو من بعض المداعبات خاصة عندما انتقل البحث إلى مجلس الأعيان. وقد رافقت دولة الدكتور عبدالسلام إلى الجلسة الأولى للبحث داخل لجنة الخارجية واللجنة القانونية، وترأس الاجتماع أيامها دولة الأستاذ زيد الرفاعي. وكان من بين الحاضرين عدد من رؤساء الوزراء ووزراء الخارجية السابقين منهم دولة المرحوم أحمد اللوزي، ودولة السيد مضر بدران، ودولة السيد أحمد عبيدات، وآخرون.
وبحسب الدور فقد بدأ رؤساء الوزراء السابقون يتساءلون عن مواضيع مثل «هل تثق بضمانات اسرائيل أنها ستحفظ السلام؟».. «لماذا لم تصر على الجانب الآخر أن ينسحب فوراً من كل الدول العربية؟».. «والسلام يحتاج إلى قوة عسكرية لحمايته كالقوة التي تحتاجها ايام الحرب، هل ستدعمون القوات المسلحة؟» ومضى قطار الأسئلة حتى جاء دور الدكتور عبدالسلام في الحديث.
وقال لهم أنتم جميعاً كنتم رؤساء وزراء سابقين أو وزراء وتعلمون مدى قدراتنا وامكاناتنا. وقد ذكرني كلامكم بمجند لبناني ماروني اسمه «ميشيل» الذي حان ترفيعه، ولكن كان عليه أن ينتظر حتى يستحق الترفيع لزملاء له من السنة والشيعة والدروز. وافق المسؤول العسكري تحت الحاح ميشيل ان يعطيه فرصة للترقي اذا اجتاز امتحاناً شفوياً. وقبل ميشيل بذلك. وسأله القائد «ماذا تفعل لو هجم عليك اثنان من الأعداء؟» فقال «اضرب الأول برجلي واقبض على الثاني واقتلهما» وماذا لو جاءك أربعة جنود اعداء من الجهات الأربع؟ فقال ميشيل «أضرب الأول، وأقوص الثاني، وابطح الثالث، وارمي الرابع فوقه» واستمرت الأسئلة تتصاعد حتى قال له القائد «ماذا لو هاجمك عشرون جندياً، ودبابة، وطائرة هيلوكبتر؟» فاحتار ميشيل وقال محتجاً «طظ في هالجيش الي ما فيه غير ميشيل؟» وانفجرت القاعة ضحكاً من كلام دولة ابي سامر. ولما انتهيت من سرد القصة، بانت نواجذ جلالته ضحكاً، وظل يضحك لفترة طويلة.
وفي كتاب الحسين «Uneasy Lies the Head»، أو «لا يرتاح الرأس على الوسادة»، فإن جلالته يتحدث كيف اكتشف المؤامرة للانقلاب على الحكم داخل القوات المسلحة. ويقول جلالته لقد كان ضابط برتبة ملازم ثان قد لاحظ تحركات عسكرية مشبوهة لآليات مدفعية ودبابات تتحرك من معسكر (خو) باتجاه عمان، دون أن يكون لتلك التحركات مبرر أو جدول مسبق. ولذلك، قام هذا الضابط بالذهاب إلى الديوان الملكي مصراً على لقاء جلالته، ورغم أن المحاولة أخذته أياما، إلا أن الضابط ثابر حتى طلبه جلالة الملك لما احيط علماً بأمره. وقال له الضابط يا سيدي أخشى من مؤامرة. وروى له مصدر مخاوفه. وحينها يقول جلالته «ان اهتمامك يجب أن ينصب على كل أفراد قواتك بغض النظر عن مرتباتهم ورتبهم. ولولا اهتمامي بذلك لحصل ما لا يحمد عقباه». وأثنى جلالته على ولاء ذلك الضابط وشجاعته.
وقد سألت جلالته عن تفاصيل تلك القصة، فقال تعلم يا أخي أن قادة الجيش آنذاك هم الذين خططوا وشاركوا لتلك المحاولة الانقلابية عام 1957. ولذلك لم تكن المعلومات لتأتيني من أحد اذا هم منعوا الناس عن لقائي. ولكن هذا الضابط (ضابط الصف)، الشاب، هو الذي قدر هذه الأمور، وجازف لنقل شكوكه في أن مؤامرة تحاك ضدي. لقد عرَّض نفسه للموت بكل شجاعة. وكيف لا يكون لذلك الرجل الذي لم اعرفه من قبل مكانة عالية عندي؟ بينما القادة في ذلك الوقت، والذي وثقت بهم وصادقتهم، كانوا يحيكون المؤامرات ضدي. ونظر إلي وقال «هل ادركت ما اريد قوله؟». فقلت له يا سيدي «نعم، وبكل وضوح».
نشأنا ونحن صغار في الكلية العلمية الاسلامية على الافتخار بتلك المدرسة لأن الحسين بن طلال كان تلميذاً فيها. ويروي لنا الحاج حمدي الطباع كيف كان صديقاً للملك، وأن الاثنين كانا يتسابقان على الدراجات، ويركضان في ساحات المدرسة. وقد عودنا جلالته على زيارة الكلية مرّة كل سنة او اثنتين. وتبقى تلك الزيارة حديثنا ومجال حوارنا لأشهر.
ما تزال الصور الحية في أذهاننا عن الملك الراحل الحاضر أنه جندي، يقف كالرمح عند سماعه للنشيد الملكي، ويسير كالنمر عندما يستعرض حرس الشرف، ويخطب بحنجرته القوية مؤكداً مواقفه ومشيداً بأبنائه البواسل في الجيش والمصنع والوزارة، أو أنه يمتطي صهوة دبابة بعد معركة الكرامة. ولكن الواقع ان للرجل جانباً انسانياً عظيماً ومتنوعاً. والصور تلك لا تفارقني.
فها هو بنظرة الأب يحمل ابنه عبدالله عندما انجبته والدته كما له صورة أخرى يحمل فيها حفيده الحسين عندما طفلاً. انظر إلى الدفء في عينيه. راقبه وهو جالس إلى رجل في البادية يناقشه، والرجل يخاطبه ببساطه إما «يا حسين» أو «يا بوعبدالله». وكذلك ابنه عبدالله الثاني وهو يجالس امرأة في بيت متواضع «بدي احبك» أي اقبلك قائلة له بأسنانها التي استعادت شكلها لما كانت في السادسة من عمرها.
أتذكر مشاهد لرجل ملهوف، أو امرأة ذات حاجة وهي تلاحق موكب الحسين، والحرس يمنعونها عن لقاء الحسين، وهو يوقف الموكب وينزل من سيارته ويلبي حاجة الشخص.
عند صراع الرجال كان الملك الحسين سيد الرجال، وتمتع بذكاء سياسي معقد له طبقات لا يدريها الا خالقه. كان يعامل أهله بشكل مباشر، بلغة واضحة، بروح انسانية لا افتعال فيها ولا مبالغة. انها لغة القلب للقلب من القلب، ولهذا أحببناه، وبايعناه، ونعيش معه نحيي ذكراه.
يقول الفيلسوف البريطاني التجريبي «دايفيد باركلي» والذي سميت جامعة «باركلي» في ولاية كاليفورنيا باسمه «ان تعريف البقاء أو existence » هو أن يتذكرك الناس. وما زلنا نتذكر الحسين لا ننساه لانه موجود بيننا.
الرأي