مذكرات طاهر المصري مساهمة تأريخية ثرية على رأس المئوية
د. بسام البطوش
20-11-2021 10:02 PM
أمضيت أياماً ممتعة في قراءة مذكرات دولة الأستاذ طاهر المصري ( الحقيقة بيضاء)، وكانت الفائدة بلا شك كبيرة، فنحن أمام تجربة طويلة وعميقة، وأمام رجل دولة بكل ما للكلمة من معان، له مساهمات متنوعة ومؤثرة في الحياة السياسية الأردنية، وقدّم من خلال مذكراته الواقعة في جزئين سرديته الخاصة لسيرته الذاتية، ولمجمل الأنشطة السياسية التي شارك فيها، ورؤيته لمسيرة نصف قرن من العمل السياسي الوطني العام.
من المؤكد أن مذكرات دولة السيد طاهر المصري تمنحنا فرصة ثمينة للاطلالة على كواليس العمل السياسي الرسمي والشعبي في بلدنا، تلك الكواليس التي لم يكن من السهل الاطلاع عليها إلا لمن عايشها، أو إذا توفرت الفرصة أن يضيء أحد المشاركين في تلك الكواليس على جوانب منها.
وفي مذكرات المصري حقيقةً معلومات تضيء على جوانب من حياتنا السياسية تساعد القارئ على فهمها إلى حد ما، وفيها جرأة ودخول في مساحات مجهولة، وفيها روح تطهرية ليست خافية، وفيها فيض من البراءة والسلام والنأي عن الصراعات، وفيها أفكار لاذعة بكلمات ناعمة، فقد ارتدى دولته قفازات ناعمة وهو يسدد لكماته هنا وهناك، وفي اتجاهات متعددة، لسياسات ومراحل وأشخاص، لكن، بنعومة وذكاء.
وتكشف المذكرات عن شخصية سياسية حائرة بين المتضادات! كما عن محاولة شاقة للجمع بين الأمر وضدّه! ومع أن صاحب السيرة اجتهد قدر استطاعته أن يكون شفافاً في بعض الصفحات، كما حاول ممارسة النقد الذاتي، وشيء من الاعترافات هنا وهناك، وبالرغم من المعلومات المتدفقة والرغبة الواضحة لتقديم تفاصيل المواقف والأفكار، إلا أننا في فصول كثيرة ومحطات هامة وأحداث مفصلية نجد أنفسنا أمام كلمات متقاطعة، علينا الاجتهاد لملء فجواتها!
وفي المجمل، بقي طاهر المصري أسيراً للتاريخ، تاريخ العائلة، وتاريخ الجذور، والبدايات، ونابلس، ومرحلة الخمسينيات وأحداثها، وتجربة والده وعمه حكمت المصري السياسية - وقد أجرى مقارنة بين العراقيل والصعوبات التي واجهت عمه وواجهته، من "أصحاب التوجهات السياسية عينهم ومن الوجوه نفسها"- ، وإعجابه بالناصرية.
وفي الحقيقة، لم يخرج المصري طوال حياته وفي كل المراحل وحتى هذه اللحظة من عباءة النيابة النابلسية، ولم يغادره الشعور للحظة بأنه نائب نابلس في المجلس النيابي التاسع، فقد بقيت خيوط هذا التمثيل ونسيجه برمزيتها تلف مسيرة المصري السياسية، كما بقي – وهذا ما تظهره مذكراته- متردداً بين سحر المنصب ومجد الموقف! هي إذاً، معادلة شاقة، وهي محاولة "طاهرية" للتطهر من أدران السياسة بعد الانغماس في بحورها العمر كله! فقد حاول جاهداً تطهير الذات من تبعات السلوك السياسي المثقل بالتساؤلات والتناقضات! لكن، هل نجح دولته في الانتقال السلس بالقارئ فوق مساحات واسعة من المسكوت عنه، دون إثارة التساؤلات عن "الحقيقة البيضاء" الغائبة أحياناً؟! وهل مارس النقد الذاتي الحقيقي عبر هذه ال 830 صفحة لمواقفه وجهوده واجتهاداته المرتبطة بقضايا وشؤون عدة، ومنها عملية السلام على سبيل المثال؟
لقد عبّر المصري عن اعتزازه بمحطات وأدوار وتجارب سياسية هامة من عمره ومن عمر بلدنا، ولا شك أن المصري أتقن قواعد اللعبة السياسية إلى حد كبير، لكنه اصطدم في محطات بمعيقات وعراقيل متنوعة بعضها موضوعي وبعضها ذاتي، وهذا يظهر من الشكوى المتكررة في مذكراته بأنه في محطات عدة لم يكن مرضياً عنه! لكن هل حقيقة لم يدخل المصري نعيم الدولة والنظام؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف نفسر تربعه لأربعة عقود منذ العام 1973- وحتى خروجه من رئاسة الأعيان 2013، على كرسي المسؤولية المتقدمة سفيراً في ثلاثة عواصم أوروبية هامة، وقبلها نائباً ووزيراً لشؤون الأرض المحتلة، ثم ووزيراً للخارجية لمدة خمس سنوات، ثم نائباً لرئيس مجلس الوزارء، ثم رئيساً لمجلس النواب ورئيساً لمجلس الوزراء ورئيساً لمجلس الأعيان! فأين عدم الرضا؟! لكن، يقفز لذهن القارئ تساؤل بدهي، هل كان التردد والتراجع وإعادة الحسابات وإجراء المراجعات في ربع الساعة الأخيرة من سمات مسيرة طاهر المصري السياسية؟ وهل أفقدته هذه السمات(الجميلة أو غير الجميلة) روح المبادرة والقدرة على التقاط اللحظة السياسية؟! وهل فوتت عليه فرصاً كثيرة؟! أم ساهمت في حمايته من الاصطدام بمطبات سياسية صلدة؟ وهل هذه السمات مرتبطة بما ذُكر سابقاً عن سعيه للتوفيقية المستحيلة بين الشيء وضده!!
ومن زاوية المعلومة التاريخية التي نتعطش لها نحن معشر الباحثين، فقد قدّم المصري عبر هذه المذكرات وجبة دسمة من المعلومات حول أحداث وقضايا وشؤون وطنية هامة. وتشكل هذه المعلومات، مساهمة جادة في التوثيق لتاريخنا الوطني في المئوية الأولى، وبالنسبة للباحث أي باحث فإن قيمة المذكرات أي مذكرات تكمن في الاضاءة على الجوانب الخفيّة من الحدث، أما الاستغراق في تقديم سرديات معروفة كما نرى في بعض المذكرات؛ فلا يثير اهتمام الباحث ولا يشبع نهم القارئ للمعلومة المجهولة.
من جانبي، أقدم وافر الشكر والتقدير لدولة أبي نشأت على الجهد التوثيقي العظيم الذي بذله لإخراج مذكراته للقارئ في هذا الشكل والمضمون الجميلين، وتعدّ هذه مساهمة تاريخية لها قيمتها قدّمها رجل دولة كبير لخدمة التاريخ الوطني، ولفائدة الأجيال الأردنية والفلسطينية والعربية للتعرف على جوانب ومحطات حاسمة من تاريخهم الوطني والقومي، وأرجو الله أن يمنحه موفور الصحة والعافية، وأرجو أن يتمكن من تدارك ما فاته في هذه المذكرات ولا سيما ما بعد 2013، ولقد شاهدت عن بعد الندوة الثرية التي أُشهرت فيها هذه المذكرات، وكانت دموعه في الختام، تعبّر عن نبل إنساني طاغ لا يخفى في شخصية طاهر المصري لكل من عرفه.