مسار أعلى جبال الأردن "قمة ام الدامي" (صور)
عبدالرحيم العرجان
20-11-2021 10:59 AM
إذا بلغت القمة، فوجّه نظرك إلى السفح لترى من عاونك في الصعود إليها، وانظر إلى السماء ليثبّت الله أقدامك عليها.
هذه المقولة التي يجب أن تشعر بها بحق، عند بلوغك أعالي القمم، مع نشوة المجد و منظرٍ يسلب الألباب فوق رمال الذهب والأفق المفتوح حتى البحر، وما لا نهاية من السلاسل الجبلية الشامخة، وأم الدامي في أعلى جبال الأردن على ارتفاع 1854، والتي تستحق الصعود والتهليل والعودة والظفر والاعتزاز.
بعد أربعة ساعات قيادة من عمان وصلنا لمركز زوار المحمية لنقطع تذاكر الدخول، واستئجار سيارة رباعية الدفع لرحلة أخرى بين جبال كانت يوماً قاعاً للبحر القديم، ورمالٍ كالذهب ترتحل حسب إرادة الريح بعد أن نحتتها من أطراف الجبال، تاركاً إياها صماء كالمخاريط، ومناظر لا تنفك من متابعتها على مدى رحلة أربعين كيلو متر لبلوغ قاعدة الجبل المنشود على أقصى الحدود.
عبرنا الطريق بين جبل رم ثاني أعلى جبال المملكة 1739م وأم عشرين ذو العشرين عامود نحو جبل الخزعلي العظيم، والسائق وريث المكان الذي يسمي لنا كل موقع باسمه المتعارف عليه، حتى وصلنا لصخرة الدجاجة وأم صباطة متخللين كثبانٍ تتغير لونها مع حركة الشمس والمسافة، وتتلألأ لتشبعها بالمعادن من الترومالين والروتيل والكوارتز، وما بين الوردي ومشتقاته من الكرميدي والزهري وألوان الطيف؛ الأصفر والرمادي والبنفسجي حتى البني والأسود، وكل الألون تحيط بك كلوحة فنية وصخور تتبعك بنظرها كالوجوه، وجداريات قد جاءت بفعل ترسيب أكسيد الحديد "الهيماتيت"، وقباب صقلتها مياه بحر عصر الأردوفيشي بين مد وجزر وما تلاه من عوامل حت وتعرية على مدى 450 مليون سنة، تاركاً بقلب صخوره مستحثات نباتية ومخلوقات مفصلية وغيرها من دقائق، ضمن ثلاثة تكوينات جيولوجية عرفت بأم عشرين، الديسي وأم سحم.
وعلى مدى أربعين كيلو متر من المتعة، كان مسيرنا فوق حوض مياه الديسي العذب الذي يشرب منه أهل عمان المشترك مع المملكة العربية السعودية، وصلنا لقاعدة الجبل المهيب من الجهة الشرقية الأسهل والأبعاد في البادية تخدع وتحتاج لمهارة في تقديرها، وعيوننا تنظر لقمتة بتسائل كيف سوف يكون المشهد من ذلك الارتفاع!
أخذنا أدواتنا بعد تمرين اطال للعضلات وما يكفي من الماء وبعض الفواكه لنبدأ الصعود الحاد، المتوجب ارتداء حذاء ذو نعل شديد الثبات وهنا يفضل أن يكون بتقنيات فيبرام المانع للانزلاق، واستخدام عصاتي الارتكاز بين خطوة وأخرى مع وضع غلاف الكاوتشوك على راسهم المدبب لتماسك أكبر بالصخور الجرداء، والاعتماد كذلك على الأيدي لضمان الثبات مع ارتداء قفازات للحماية من الأملاح والأكاسيد المتشبعة بها الصخور والأتربة، آخذين بعين الاعتبار هشاشتها واحتمالية تكسرها بشكل كبير جراء الضغط وثقل الجسد أو توالي خطوات المجموعة.
درب معلم دكته إقدام عشاق الترحال يظهر وإن اختفى هناك علامات من حجارة رصت فوق بعض وضعها الأهالي للدلالة على الطريق تعرف "بالقراقير"، لنصل التلة الأولى وعندها الاستراحة ونحن ننظر لما قابلنا من فواصل عامودية وجروف وانحناءات عرضية بفعل ضغط الأرض وتصدعات وفوالق عملت بها زلازل وهزات ما قبل الاستقرار.
ومع الارتفاع تشعر بتباين وانخفاض بدرجات الحرارة وسرعة الريح، حتى وصلنا للقمة الثانية وعندها كانت الاستراحة لنكون هناك فوق سلسلة الجبال، لنستكمل الطريق نحو القمة، وما إن وصلنا حتى حضينا بمصادفة مجموعة من حيوان "الزَلَم" سرعان ما اختفت بين الصخور، و"الزَلَم" حيوان قارض يشبه الفئر مهدد بالانقراض.
وأول ما شدنا هناك راية الوطن، وهي تخفق بمجد فوق هذا الارتفاع، ومشهد بانورامي يسحر الألباب ويمتد إلى ما لانهاية من سلاسل الجبال وحتى خليج العقبة الذي يبعد 47 كم، وبيننا وبين حدود السعودية 2500 م فقط، وأودية ومجاري وسيول موسمية ضمن منطقة واحدة كانت يوماً معبر لقوافل التجارة ودروب الممالك التاريخية عرفت بمنطقة حسمة، أدرجتها اليونسكو ضمن الإرث الإنساني العالمي عام 2011.
جلستنا امتدت لساعة ونصف فوق صخور ضخمة تكسرت بفعل المطر والتبريد السريع للقمة عبر سنين وجاورها على التلة المقابلة إقامة مرصد فلكي لدراسة الكواكب والنجوم بأحدث الأجهزة والتقنيات، لنهم بالنزول من نفس الطريق وتعاون الفريق وإرشادات الكشاف وقائد المجموعة من حيث المسير واعطاء توجيهات تتعلق بوضعية القدم والحذر الشديد من حبيبات الرمل الناعم فوق الصخور خشية الانزلاق، والارتكاز على العصي بحيت تكون واحدة أطول من أخرى للمسير الجانبي وحفظ التوازن.
حتى بلغنا القاعدة بفارق ارتفاع 450 م قاطعين مسافة 7 كم موزعة ومناصفة بين صعود وهبوط، ليستقبلنا صديقنا سائق السيارة بابريق شاي قد أعده على جمر الغضى ومباركة هذا الانجاز والعودة سالمين، ولم ننسى تعليماته وارشاداته بالنزول قبل الغروب حتى لا نضل الطريق.
وبعد هذه النشوة انطلقنا لمخيمنا قرب جسر أم فروث الحجري وبعد استراحة كان عشائنا زرب محلي وسهرة سمر حتى الصباح حول النار ودلة القهوة العربية وإبريق شاي، متابعين حركة النجوم وحديث لا ينتهي عن المكان وأصول العشائر ووسم إبل القبائل والعادات والتقاليد وأسرار المكان.
ومع الصباح وبعد الإفطار، أثرنا استكمال طريق عودتنا نحو القرية سيرا على الأقدام بمسافة إضافية بلغت 18 كم، لنزور بعدها محطة القطار الحجازي، وهو إحدى نقاط الخط الممتد بين دمشق حتى المدينة المنورة 1908 م ومشاهدة محتواها والقطار المعاد تشغيله الذي يعد متحف حي وعرض يجسد مشاهد للثورة العربية الكبرى 1916م ودخول أجواء المعركة حيث يستقبل بمشهد درامي قريب من الحقيقة والزمان بين هدير محركات القطار وأصوات الرصاص وصيحات الفرسان.