انتابني من الشعور بالغبطة من عدالة سيد البلاد ما دفعني إلى الإفصاح عن امتناني بها بكتابة هذا المقال. وعدالة جلالته جليّةٌ في منحه ميدالية المئوية لأول مستحقيها من الأحياء، أدام الله في الأرض ظله، سمو الأمير الحسن بن طلال حماه الله ورعاه.
أفرحني قرار سيد البلاد الذي أكرم فيه الأمير الهاشميّ الذي عرفته بالمقابلة وجهاً لوجه في مكتبه في قصر بسمان العامر، قبالة مدخل الفصر الرئيسي، في أحد أيام شهر أيار 1971 حين تحدد لي موعد لمقابلته برغبة منه، إذ أعطاه فكرة عني دولة الرئيس المغفور له وصفي التل كأول مهندس أردني يعود لخدمة وطنه حاملاً درجة الدكتوراه من الولايات المتحدة التي عمل فيها سنتين في البحوث الهندسية بعد تخرجه.
طلب إليّ سموه أنذاك أن أعمل في الجمعية العلمية الملكية وفعلت وأسست مركز الكمبيوتر الرقمي هناك ونواة لدائرة الهندسة المدنية ومختبرات المواد. ودفع بي سموه للعمل في تجهيز خطة التنمية الثلاثية إلى جانب رعيل منتقى من الكوادر الأردنية القادرة، أذكر منها عبدالوهاب المجالي ومحمد عوده القرعان وخليل السالم وعمر دخقان ومحمد نوري شفيق وسعيد بينو وخليل اللوباني وحنا عودة وهاشم الدباس وأحمد منكو، رحمهم الله جميعاً، وعلي سحيمات وعلي الخصاونة وواصف عازر وسلطان لطفي وميشيل مارتو أطال الله في الأرض بقاءهم ومتعهم بالصحة والعافية، وغيرهم ممن لم تسعفني بذكرهم الذاكرة.
قاد تلك النخب ولي العهد الشاب المتدفق حماساً، والباعث فينا نحن الشباب حماساً أوفر، كان يتركنا عند منتصف الليل وأحياناً بعده ليجتمع بنا بكرة اليوم التالي. يناقش القضايا ويتوصل إلى النتائج بحنكة قيادية، وينتقل من اجتماع لجنة إلى اجتماع أخرى في المدينة.
وكانت قاعات الاجتماعات العامة محدودة العدد تقدمها مدينة الحسين للشباب، والجمعية العلمية الملكية، وفي فندق الأردن إنتركونتينانتال.
وقاد سموه مساراً أخر اعتنى بوضع خطة اقتصادية واجتماعية متكاملة لإعادة إعمار الأغوار الأردنية وتنميتها بعد ما شهدته تلك الرقعة الأردنية الغالية من دمار وتخريب جراء الاعتداءات الإسرائيلية بعد اشتداد نشاط المقاومة للاحتلال وردع قوات الجيش العربي للقوات التي غزت مناطقنا. وأبلى المهندس الخبير والكفؤ عمر عبدالله دخقان البلاء الحسن في عون الأمير المتدفق حيوية ونوايا لتحقيق التنمية ورفع مستوى معيشة سكان البلاد. وقدم الأمير خطة التنمية الثلاثية للممكة وأخرى في موعد لاحق خطة إعادة إعمار وتطوير وادي الأردن لجلالة الملك الحسين طيّب الله ثراه في صالة في الجمعية العلمية الملكية بحضور نخبة من الأردنيين المسؤولين. وزاد المناسبة بهاءً في فترة استراحة قصيرة رؤية ثلاث شاحنات تدخل حرم الجمعية سأل عنها الملك الباني وسُرّ أيما سرور عندما أخبره ولي عهده أنها تحمل أول كمبيوتر رقمي ولوازمه إلى البلاد ليتم العمل عليه وبه في الجمعية العلمية الملكية.
وأشرقت شمس التنفيذ للخطتين، ولا يتسع المجال لسرد ما عوّدنا عليه سموُّه من يذلٍ للنشاط، ولن أنسى تجشم الصعاب وولوج دروب الخطر الكيد كيما يتسنى لنا أن "نبيّض الوجه" في متابعات سموه المتكررة للميدان وتفقد أعمالنا وتقدمها. كما لا أنسى نشاط سموّه لتبيان الجهود الأردنية في التنفيذ إبان السنوات الوائل من تنفيذ تلك الخطط، وتجوال سموّ في أقطار العالم المتقدمة ناشداً مساهماتها في تنمية الأردن وتطويره. ومنها تفرغه، أطال الله عمره، في استقبال المهتمين في مسيرة الأردن من نواب وشيوخ أميركان، ورؤساء حكومات أجنبية وأعيان، ومراسيل وأعوان. وكانت له جولة لا تنسى مع المرحوم روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأميركي إبان رئاسة جون كينيدي وخليفته جونسون، ورئيس البنك الدولي بعد ذلك. استقبله في الرمثا في تشرين أول 1974 وجال معه وادي الأردن من المخيبة شمالاً إلى البحر الميت جنوباً ليريه تقدم العمل، ثم طار به إلى البترا ووادي رم والعقبة وأراه الإصرار الأردني على الإنتاج بهبوطه في "مدش الموجب" ليريه كيف أن فلاحاً أردنياً من بني حميدة يفلح الأرض ويرويها في منطقة مقطوعة من سبل الحضارة والمدنية لا تصلها الآليات بل يخدمها ويصدر منتوجه بتسخير الدواب. ولسموّه مأثرُ كثيرة ليس أقلها إسراعه، وهو في ساق مكسورة، إلى لقاء هيرمان آبس مؤسس بنك التعمير الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، ومرافقته له لتبيان النشاط التنوي الأردني.
وبإمكاني كتابة مجلّدٍ عن ذكرياتنا كفريق مع سموه في متابعاته للعمل والتشجيع على الأنجاز، وجاوزت نسب النمو، بمتابعته وشحذه الهمم، معدل ال 10% في بعض السنين من السبعينات. فقد كان العون الأكيد في الوقت الشديد لجلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه، وبتكليف رسمي من جلالته.
ولا تشي نشاطاته التنموية بكل ما قام به سموّه، فقد كان لنشاطه الفكري نصيب وافر من وقته. وهو الذي أسس منتدى الفكر العربي بعد تأسيسه للجمعية العلمية الملكية ثم أسس مؤسسة آل البيت ولجنة القدس وكان قوة دافعة وراء تأسيس المعاهد الحكومية الفنية وتأسيس الجامعات الحكومية ومتابعة أدائها. ونحن كأردنيين مدينون لسموه نشاطاته التي ساهمت في إنماء بلادنا وفي رفعة سمعتنا وتزيينها، ولم تهدأ له حركة ولا بال إلا باستهداف الرقي والمحال. وأعلم أنني لم أفِ سموّه حقه بل عرضت نبذة عجلى في سيرته الرسمية.
شكراً لجلالة القائد الأعلى على منح سموّه ميدالية المئوية التي يستحق، ونرجو أن لا يغيب عن بالنا جميعاً جهد سموّه الدؤوب الذي أثمر وأعطى حصاداً اقتصادياً واجتماعياً وفكريا. وأن جاز لي أن أقترح من هم مؤهلين للتكريم من أبناء وطننا في مئويته فإنه يتبادر للذهن ثلاثة هم الأن في الدار الباقية وهم: المهندس الزراعي نصوح الطاهر لجهده في تنمية القطاع الزراعي وأنشاء المحطات الزراعية، والمهندس عمر عبدالله دخقان لمساهماته القيمة في قطاع المياه والمصادر الطبيعي وفي تطوير وادي الأردن، والسيد علي الخصاونة البلدوزر الذي أقام بدعم ملكي وحكومي مشروع البوتاس وإحياء شركة البوتاس العربية، أما من الأحياء فيتبادر إلى الذهن المهندس علي النسور لجهده الدؤوب في تحليق سلطة الكهرباء الأردنية وإنارة الريف الأردني وفي إدارة شركة البوتاس العربية في أقسى ظروفها.
والله من وراء القصد.