أوراق من ذكرى الحسين وأيامه
سامح المحاريق
14-11-2021 12:53 PM
لم أكن أعيش بصورة مستمرة في الأردن أثناء حكم الملك الحسين، رحمه الله، وإن اعتدت أن أثني على عبقريته عندما أتحدث مع الناس في مصر، ويعرفون أنني أردني، لم تكن أي بلد عربي آخر تستدعي الحديث عن قائدها مثل الأردن، يبدأ الحديث مع الخليجيين عن البترول، ومع المغاربة عن لهجتهم، ومع السودانيين عن الأخوة ووحدة وادي النيل، مع السوريين واللبنانيين عن الطعام والنساء الجميلات، أما الأردن، فكان الناس يسألونني، وأنا المراهق بحياته المحدودة: والملك حسين عامل ايه؟ من أنا لأعرف أخبار الملك أصلاً؟ ثم يتواصل الحديث: الراجل ده عبقري، وما حدش يقدر يعرف هو ح يعمل ايه أو عايز ايه؟
كنت أهز رأسي مؤمناً على ما يقولونه، بعضهم كان يستعرض معلومات سياسية وأخرى تاريخية.
كنت في مدينة الإسكندرية، السكندريون يحبون الملك الحسين لأنه عاش في مدينتهم لفترة من الوقت طالباً في مدرسة فكتوريا غير البعيدة عن منزلنا، لا أعرف إن كان الحوار يدور حول امتداحه في أماكن أخرى من مصر، ووقت وفاة الملك كنت في الإسكندرية، أتذكر الملابسات وقتها، كنا ننتظر طلباً من أحد المطاعم في منطقة المعمورة، وأعلنت الوفاة، بكيت!
لم تكن الوفاة سبباً في البكاء، فهي كانت متوقعة منذ أيام، ومؤكدة، منذ أعلن مذيع قناة الجزيرة جميل عازر وفاة الملك إكلينيكياً، وسبب البكاء كان مشهد الأردنيين في الشوارع وفي محيط المدينة الطبية، زوجتي كانت هناك، لم أكن أعرفها في ذلك الوقت، أخبرتني أنها أجهشت في البكاء مع الجموع عندما هبطت طائرة الهيلوكبتر.
عدت إلى الجامعة، وكتبت نعياً للملك وعلقته في مكان بارز في الجامعة، اعترضت عمادة الطلبة، فالجامعة تتبع لجامعة الدول العربية وتتجنب التحيز لأي دولة، وأمام إصراري بقي النعي معلقاً، كنت طالباً أحظى بعلاقة متميزة مع أساتذتي، وفي ذلك اليوم، كان بعض الزملاء يعرفون أنني أردني للمرة الأولى لأنني كنت أتحدث اللهجة المصرية بطلاقة، وأسكن مع عائلتي في أحد الأحياء التي لا يسكنها الطلبة المغتربون.
زوجتي ابنة رجل عاش حياته معارضاً، وتعرض للسجن والفصل من العمل في حياة الملك الحسين، ومع ذلك، فهو يتحدث أيضاً عن الملك الراحل بكثير من المحبة والإعجاب، ويستذكر حواره معه في الجامعة الأردنية حول العلاقات الأردنية – السوفييتية، والدعم الذي قدمه الملك بعد ذلك لجمعية الصداقة بين البلدين والتي وفرت عملاً لوالد زوجتي لفترة من الوقت أثناء فصله من وزارة التربية والتعليم، مرة بمعية بهجت التلهوني وأخرى مع عاكف الفايز، فالملك كان يصر على أن يشغل منصب رئاسة جمعية الصداقة رجال مقربون منه للإبقاء على خطوط اتصال مع موسكو يمكن أن تشكل جساً للنبض في قضية أو أخرى خارج التواصل الدبلوماسي المباشر.
أتفهم موقف فرج اطميزه، الأمين العام الحالي للحزب الشيوعي الأردني، ووالد زوجتي، فالأمر نفسه عايشته مع سيد حجاب وجمال عبد الناصر، أما جمال عبد الناصر فالجميع يعرفه، وأما سيد حجاب فهو الشاعر المصري الكبير الذي أتيحت له فرصة أن يكتب ديباجة الدستور المصري الأول بعد ثورة يناير، وكان أن أنتقدت عبد الناصر في حضرته في زيارته إلى الأردن، وكنا جالسين في مطعم شهرزاد بوسط البلد، ليرد علي بهدوء، ويدافع عن عبد الناصر، ويخبرني بصدق بكاء الشيوعيين عندما سمعوا نبأ وفاته، وهو أحدهم، وفي حياة عبد الناصر تعرض للاعتقال طويلاً، وأفرج عنه وعن رفاقه بواسطة من الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، ليبدأ رحلة من النفي الاختياري بعدها، كل ذلك، والرجل يحب عبد الناصر ويرفض الإمعان في نقده.
أستعرض الحالين، فرج اطميزة وسيد حجاب، وأجد أن عبد الناصر والملك الحسين، وكان بينهما فصول من الخلاف والصراع والتحالف والتآلف، كان يشتركان في فكرة المشروع الوطني، ولعل الملك الحسين كان عليه أن يبدأ من أوضاع أكثر صعوبة، ففي مصر كانت التعليم المهني متصاعداً منذ حقبة محمد علي، ومع جامعتي القاهرة والإسكندرية بقيت النخبة المصرية تتوسع، بالإضافة إلى موارد طبيعية هائلة، أما الوضع في الأردن فكان مختلفاً، فالملك الحسين انتزع في مرحلة مبكرة من حياته الطبيعية ليتولى مسؤولية قيادة المملكة التي شهدت قبل فترة ليست بالبعيدة اغتيال ملكها المؤسس، وكان على الحسين أن يتعامل مع واقع السيطرة البريطانية على جيشه، وأن يواجه بعد فترة وجيزة محاولة انقلابية في جيشه، وبعدها كانت العائلة الملكية الهاشمية في العراق تتعرض لمذبحة قصر الرحاب، تحديات لم يكن يتوقع أحد أن يخرج منها الملك، على العكس من ذلك، كانت الجميع ينتظرون كبوته التي لم تحدث حتى وفاته.
مع بداية الستينيات كان المشروع الأردني ينطلق بزخم استثنائي يثير الاعجاب، فتأسست الجامعة الأردنية، والخطوط الجوية الملكية، والتلفزيون الأردني، وتطورت شبكات الكهرباء والاتصالات بطريقة تثير الإعجاب، وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية التي أحدثتها عملية التوسع في بناء الأصول الوطنية والتي شهدت أزمة طاحنة سنة 1989 إلا أن خروج الأردن بمكتسباته كان مدعاةً للإعجاب أيضاً.
اليوم هو مناسبة لكثيرين من أجل الكتابة عن هذه التفاصيل، ولست بحاجة لأن أضيف شيئاً، فثمة ما يقف وراء هذه الإنجازات، وهو عقيدة التسامح والاستيعاب التي كانت جزءاً أصيلاً في شخصية الملك الحسين، فجميع من خرجوا في انقلاب 1957 عادوا للمشاركة في الحياة السياسية والعامة في الأردن، ياسر عرفات تلقى العلاج في المستشفيات الأردنية وما زالت صورته يقبل جبين الحسين ماثلةً في الذاكرة، جورج حبش توفي في عمان وشهد تأبينه مشاركة واسعة، وكتبت شخصياً عند وفاته افتتاحية في صحيفة الرأي.
هذه الروح ليست في مكان سوى الأردن، هذا الإرث هو الذي نحاول استبقاءه وراء الحسين، نحاول أن نعيشه وأن نتمثله، ننجح أحياناً ونفشل أخرى، ولكننا نستذكره، ويستذكره الجميع، وكان ذلك، مع مشروعه في البناء، سبباً وجيهاً لبقائه في التاريخ بعد أن طويت صفحاته على كثيرين من معاصريه ومجايليه، وهذه الروح التي دفعت الجميع لأن يستذكرها مع التحرك الملكي الأخير في قضايا إطالة اللسان، وعندما تحدث الملك عبد الله الثاني مع مواطنة أردنية تعرضت للتعسف لأنها قالت أن والدها أفضل من الملك.
في الأمر رسالة مبطنة لبعض الرجال الذين يفتقدون لهذه الروح، ويعتقدون أن المناكفة والخصومات يمكن أن تضعهم على ساحة التاريخ الذي يمتلك مزاجاً صارماً وذائقة مرهفة في احتضانه للرجال وذكراهم.