هربت الخميس ، الى الكرك ، وحين الوذ بالجنوب ، تكون ساعاتي صعبة وثقيلة ، فأفرعبرالدرب الذي يقودك الى القبلة ، والذي قاد الملايين قبلك عبر مئات السنين من اهل "الشام"الى "مكة" براً على الاقدام وعلى الجمال والخيل ، مهللين مكبّرين ، في رحلاتهم ، الى بيت الله الحرام.
عدت من زيارتي متألما ، وحين تقف في موقع معركة مؤتة ، وفي المسجد القديم الذي لم يتبق منه سوى محرابه وحجارته ، تصاب بصعقة على رأسك ، لانك تشاهد عاملا عربياً قد انزوى وخلع بنطاله وجلس يقضي حاجته على ارضية المسجد القديم الترابية ، دون خجل ، وعلى ذات الارضية زجاجات المشروبات الكحولية التي يتم شربها ليلا ، وتسأل نفسك لو كان هذا المكان فندقا من طراز خمس نجوم هل كان سيهمل بهذه الطريقة ، وهل كان متنفذو"الصوت العالي" سيقبلون هذه المهانة لبيت من بيوت الله ، وان تهدمت جدرانه.
تذهب الى لوحة الشهداء التي تحوي اسماء شهداء معركة مؤتة ، فتراها قد تحطمت في بعضها ، دون ان يكلف اي احد ان يسأل نفسه لماذا يقبلون تكسير لوحة عليها اسماء الشهداء ، ولماذا تهان اسماء الشهداء بهذه الطريقة ، وتتذكر يافطات الاعلان عن الفنانات ، وهي يافطات انيقة جميلة لا تؤثر بها الشمس ولا البرودة ، فتقول في نفسك ان هذا زمن عجيب ، يهان فيه اسم الشهيد ، ويُكرم فيه العصاة ، الذين لادور لهم سوى تخريب اخلاق الناس ، ومحو قيمة الشهادة من ضمائرهم ، لاحلال رموز مكان رموز.
ترتحل من تلك النقطة عودة الى قرية "مدين" فتدخلها آمناً ، طرقها محّفرة ، مساجدها قديمة ، ومآذنها لم يعد طرازها موجودا لانها قديمة ، مواقف الحافلات في القرية اكل منها الدرب وشرب ، مدارسها قديمة ، وتسأل عن المال المكدس في عمان ، ولماذا لايبني مدرسة في هذه المنطقة لوجه الله ، ولماذا لايبني مسجدا لوجه الله ، ولماذا لاتُعبد الشوارع ، وتصل الى بئر "مدين" التي مازالت تسقي الماء ، وهي البئر التي وقف عندها موسى عليه السلام ، وسقى للاختين ، وتزوج احداهما ، وترى منطقة البئر مهملة ، ولا يوجد لوحة تعريف ، ولا انسي ولاجني في تلك المنطقة البعيدة ، ولاخدمات ولامرشدون ولازوار ، بالاضافة الى عدم نظافة المنطقة المحيطة بالبئر ، فتخرج متألما على بلد يهمل اعز واعظم مافيه.
ادير محرك السيارة الى المزار الجنوبي ، الى مقامات شهداء الصحابة جعفر بن ابي طالب وزيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة ، وازورهم واقرأ لهم الفاتحة ، ولولا اسئلة الحرس المريبة عن اسم كل ضيف ، لكان كل شيء على مايرام ، وعند سيدنا جعفر ترى عائلة كويتية جاءت لزيارته ، يمضون وقتهم في قراءة الادعية والتقاط الصور للمقام ، وتقف عند جعفر وتتذكر كم هذا الرجل عظيم ولاند له بين الرجال ، حين يقطع الروم يمينه فيحمي الراية بيسراه ، وحين يقطعون يسراه ، يحمي الراية بصدره.اول الفداء هو بحق.جعفر رضي الله عنه وارضاه ، مازال سراجاً لهذه الامة ، بأن لايبخل المرء بروحه ولابجسده.تقف عنده لحظات ويدور الحرس فوق رأسك ليراقبوك ، كأنك تفعل خطأ ما ، ويقطعون عليك تأملك مرات ومرات ، بأسئلة فضولية تفهم سرها.
برغم ذلك تشحن روحك ، وتتذكر شهداء عظام ، ورجالا ليسوا كالرجال ، سراجات الجنوب ، النقي البهي ، الغامض بحدته ، المثير بسكوته ، وتعود الى عمان ، كطفل ولد للتو ، لكنك لاتنكر"الغصة" في قلبك ، للاهمال الذي تراه في كل مكان ، ولتلك الاهانات في مواقع متعددة ، ولذاك السكوت على مس كرامة هؤلاء الرجال ورفاقهم في تلك المواقع بوسائل شتى ، وبعضنا لو اعتدي على سمعة جده الرابع عشر ، لاقام الدنيا وما اقعدها ، وبعضنا لو القيت امام باب منزله ورقة ، لاستل مسدسه ولاحق من يرميها ، فيماهذه المواقع يتم تركها بحالة مزرية لا يقبلها من في قلبه حب لهذا البلد.
الاردن الذي نعرفه ، هو اردن الانبياء والصحابة والشهداء ، الاردن الذي صنع التاريخ ، ولم يكن عابراً للذاكرة ، الاردن ناصية الاسلام ، وجبينه الوضاء ، ومفتاح فرجه .
فرق كبير بين ان تحب الاردن لانه يؤّمن مصالحك ، وبين ان تحب الاردن لانك تعرف قدره ومقداره.
الدستور