قالت لي: أنفك يكبُر. قلت: أنفي مرتكزي. هل يقلقك أنفي. يكبر معي كلما أتقدم في العمر. هذا زمن خانق يحتاج إلى أنف كبير؛ إلى كمية أكبر من الأكسجين لنواصل الحياة. لا أشعر بالإنزعاج. لست ممتناً لعضو في جسدي، قدر امتناني إلى أنفي. حفظ ذاكرتي. إنه دماغي السفلي. هكذا يقول العلماء، فالبصلة الشميّة جزء من النظام الجوفي للمخ، تستدعي الروائح عن طريق استحضار الذكريات والاستجابات، وتتصل مباشرة باللوزة الدماغية المسؤولة عن المشاعر، كما تتصل بالحُصين، مركز الذاكرة.
قلت لنفسي: ليس هناك عضو في الجسد أكثر سرعة في الوصول إلى الدماغ من الأنف. الروائح أحاسيس فريدة، وهي الوحيدة التي تسير بسرعة فائقة عبر هذا الطريق إلى مراكز الذاكرة. كل الحواس تصل إلى المهاد في الحجرة الدماغية، إلا الروائح، تتجاوز المهاد إلى اللوزة والحصين، لتثبت الأحداث في اللوائح، وفي الصفائح.
حواس السمع والبصر واللمس تشبه قطار نوم ينطلق من محطة «أوسترليتز» في باريس ليلاً، ليصل إلى «كان» الجنوبية في صباح اليوم التالي، فيما الأنف قطار سريع ينطلق بسرعة فائقة من محطة «ليون» ليقطع المسافة في زمن قياسي. ليس هناك في الجسد ما هو أخطر من تلك المنطقة الواقعة بين جوف الأنف وجسره، بما في ذلك الفك، إنها تشكل مثلثاً أطلق عليه العلماء اسم «مثلث الموت».
رائحة فستق «أم العبد»، أو «بويا» ماسح الأحذية في باب العامود، وعبق التوابل في باب خان الزيت. بن ازحيمان. الرائحة المنبعثة من محل مصلح البوابير «أبو عبد الزُّحّيكِة». مطبق وكلاج زلاطيمو. الكعك بالسمسم من مخبز المُصرارة. القهوة المنبعثة من مقهى «زَعتَرَة». السجاد المعطر بعرق جباه الرجال في المسجد الأقصى. عبق الشموع والزيوت المقدسة في كنيسة القيامة، ورائحة الحجارة، هي التي أبقت القدس متربعة في حصين ذاكرتي.
أنفي كبير. صاحب الفضل في كتابة روايتي عن الخليل، وهو مصدر حكاياتي. رائحة «الكُسبِة» التي هي مُخلّف عصير السمسم، والجِفت؛ محروق بزر الزيتون. فلافل الفاخوري في حارة القزازين. النعناع البلدي في أكواب شاي مقهى بدران. الخبز الطازج من فرن الشويكي. رائحة الفوارغ والمعاليق على عربة «أبو عنتر». الكعك والبيض على عربة «أبو الكِزِب». القدر والفخاخير بالسمن البلدي من فرن الحاج شعبان القصراوي. الرائحة المنبعثة من محل مبيّض النحاس الحاج رمضان الحداد، وبهارات يفوح عبقها من محل الحاج ربحي زيتون، هي التي جعلت الخليل تسكن في ذاكرتي.
لا شيء غير أنفي حفظ ذاكرة المكان. الخبز من فرن «أبو عزام». فلافل «أبو محجوب». الياسمين على أسوار البيوت. بزر البطيخ المحمّص من المحل المجاور لسينما الخيام. عبق شجرة التوت في بستان «أبو فهد اشنانه». المكسرات الطازجة في محمص برهومة. رائحة «الميل في» من باتسيري فيروز، وقوارير القرنفل، هي التي جعلت اللويبدة منطلق أحداث روايتي القادمة «وسط البلد».
أنفي وسيلتي الفريدة لحفظ الذاكرة. رائحة بن الفيومي وشوربجي، أو بن البدوي. الطعام في دخلة مهنّا. الكتب في مكتبة خزانة الجاحظ. الروائح فقط هي التي انتقلت من أنفي إلى حجرتي الدماغية، لتجعل عبارة «وسط البلد تعني قلب عمان، لا أي قلب آخر. روائح عبقت بالجدران الحجرية، وجدران الذواكر البشرية. عبق الحبق. الهال، وبسمة الخال، ومطعم الخال، وكيف الحال، كيف كان، وكيف آل. والطيب، وجوزة الطيب، وأنفاس الرجال. رائحة «الئينر» في مقهى كوكب الشرق في أيام الخريف. الجلود في محل «تادرس». جلخ السكاكين على يد بخاريٍ يضع على عينيه «نزّارات»، حتى يتمكن من رؤية حد السكين. المفتول البلدي. الحجارة الرطبة. الزيوت العطرية للمصلين العابرين من وإلى المسجد الحسيني الكبير. الماضي على الجدران. العطور المنبثقة من «أبو شام»، و»الحِن». البهارات. العطر على أبواب كنيسة البشارات. الغار والخزامى، وذاكرة دموع اليتامى، والحُمحُم، وقصص المارد في القُمقم، كلها من الأنف، والسمن والعسل، والثوم والبصل. قشر البرتقال المحروق على صفحة «صوبة علاء الدين». رائحة دينار تركته أمي، ورائحة أمي، وعطر الأم، وعبق الأم، و»حواديت» الأم، والاختناق الذي يعقب رحيل الأمهات، يستلزم بالضرورة أنوفاً كبيرة، بل «شفّاطات»، تمكننا من أخذ أنفاسنا بعدما يصبح الهواء في السماء ثقيلا.
أنفي هو الذي حفظ النساء أيقونات يتسكعن باستبداد في حجرات عقلي. شكراً للذاكرة على امتدادها. شكراً على استبدادها، وعلى جميل استردادها للذكريات، والأزمنة، والأمكنة، والحكايات، وإثارة الرغبة بي، للعودة إلى أحضان الماضي، وشكراً لأنفي. نعم، أنفي كبير. دعيه يكبر.
(الدستور)