صادق عبد الحق .. الموتُ على وسادة الحلم
مصطفى ابولبده
09-11-2021 09:31 AM
معظم الذين كتبوا في تأبين صادق عبد الحق، إذ غادرنا ضُحى الأحد الماضي، عرّفوا به أديباً ملتزماً، كاتبَ مقالةٍ مِرْوحتُها وسيعة، ومحامٍ. وفي ذلك كأنهم كانوا يتوافقون على المكان’ الفكري’ للراحل، وعلى استحقاقٍ وصوابٍ تكفينه بعباءة المثقف، باعتبارها أضحتْ عزيزةً نادرة.
مِنْ بين أعماله المنشورة، والتي راوحت في الشعر ومقالة الرأي والقصة القصيرة، أفسح مريدو صادق عبد الحق في تأبينهم له، بالتنويه بكتابه الاخير"أربعون عاما في وجه التيار" ليقولوا انه كان صاحبُ رؤيةٍ وموقفٍ مُتّسق، يحامي عنهما بثقافة ٍ مجتمعيةٍ عاليةِ الوعي فائقة المسؤولية، ما جعله يغرد خارج السرب
في الاربعين عاما، أمضى الراحل نصف عمره مقيماً على الكتابة والنشر في الاردن والصحافة العربية، بقضايا مدبّبة وعناوين مٌجلّخة، مٍنْ تلك التي يطّفّ بها السيلٌ القوميٌ المُعكّر بشتى أنواع الرواسب والفضلات.
كان بود كاست يوثّق للأنين، يحوّله الى رجع ٍداخلي وتراويدَ مِنْ مقام الرّسْت.
نشر صادق عبد الحق خلال هذه الفترة - متنقلا بين القصيد والسرد - مجموعة شعرية حملت عنوان ”كلمات من تلك الأيام“، ومجموعتين قصصيتين هما "الغبار وشانيل" و"في ذكرى الغبار وشانيل"، ومقالاتٍ جمع بعضها في كتابه الأخير قبل خمس سنوات.
مؤسسة جائزة عبد العزيزالبابطين للإبداع الشعري، وهي تحتفي بصادق عبدالحق المبدع، نشرت له في موسوعتها قصيدة ”المرأة الوردة“ بخط يده. وأضافت لها قصيدتين أخريين هما: "السائحة" و"المهر الأشقر".
المنتدى العربي نعاه "محاميا واديبا قوميا ملتزما"
الموسوعة العربية الحرة ارابيكا وصفتْ اعماله بانها ثروة وطنية هائلة في التنوع العريض والتحليل العميق، مع الجرأة والموضوعية والجدة وكشف المسكوت عنه والتغريد خارج السرب
وهو يُشطّبُ كتابه" أربعون عاما في وجه التيار" ، منحني صادق زَهوَ قراءة المسودّة ، بالذي يعنيه مثل هذه الترخيص مٍنْ حقّ دخول غرفة الخزين وورشة التصنيع وتسلُّق درج سطح العمارة الوجدانية
يومها كتبتُ على الغلاف الأخير لمجموعة المقالات ان "الصادق عبدالحق يحجُّ والناس راجعة"، لكن يشفعُ له انه صادق النية بالطواف ورمي الجمرات، حتى لو كان لوحده وفي غير الموسم.
في الذي قُلتُه، ان صادق وهو في الثمانين ما زال يعتقد أن ”الأغاني ممكنة“ وأن هناك من يقرأ، وأن من يقرأ يمكن أن يغضب وينشف ريقه. فلديه من الغضب اليابس المشفوع بطمأنينة -وليشرح لي صدري- إلى الحدّ الذي يجعل مَنْ يقرأ له أو يستمع، يتشردق بالوجع الخشن.
كان يزهو أنه من توالي أشجار البلوط. ربما سرقتْ تيارات الريح والغَبَرة سَمْعَه، لكنها لم تطلْ هدايا ”النجدين“، اللسان والشفتين. كما لم تصمد أمام حسّ السخرية الحامضة الذي يمتد عنده، مثل النفط الخام، حقولاً وسيعة على عمق شبر تحت قشرة قصائده وكتاباته.
لم يبْتئس صادق على ما فقده من حاسة السمع. فقد أعفاه ذلك من مشقّة الاستماع للإذاعات أو الـ“توك شوز“ الفضائية هذه الأيام. ثم أنه يمتلك شبكة ”انتينات“ رقمية داخلية، نصفها جينات موروثة، ونصفها الآخر صنعها هو مبكراً منذ أن درس القانون وأصبح عضواً في جمعية المحامين الدولية في لاهاي، وتغرّب، وعضواً مؤسساً في رابطة الكتّاب الأردنيين
وصفتُ "أبو الشهيد محمد" بأنه مثل الخيل يحلم واقفاً. واستحضرتُ من "رسائل الروائي تيسير السبول إلى صادق عبدالحق"، وصفه إياه بأنه من متصوّفة الكلمة الطهور التي، كالعذراء، لا تُمسّ. كان تيسير يقول إن صادق حظي في صباه بمطعوم ثلاثي، ضد النفاق وأمراض سارية، لم يذكرها تيسير، لكن من يقرأ كتاب صادق ”أربعون عاماً في وجه التيار“ ربما يلتقطها.
جَبْلةُ العمارة الادبية لصادق عبد الحق تبدو خلطة نوعية من الثقافة والمسؤلية، مسقيّة بالمناقبية. ولذلك نجا من ثلاثة حُفر تستهلك في العادة بيئة المثقفين: لوثة النرجسية ومتاهة العلاقة مع السلطة، وسجال الحنابلة والمعـتـزلة.
كان سمحا هنيّا مكشوفا على الضوء، ولديه ذاكرة وقاموس رشيق محشو بلقطات المفارقة الصادمة.
صادق، كبير عيلة عبد الحق، هو شقيق اثنين من أعلام الثقافة التنويرية والصناعة الصحفية من موقع الريادة: بدر وتاج الدين. في الذي ارتادوه فرادى قبل اربعة عقود، وراكمه ثلاثتهم -كلٌّ في مكانه وتجلياته- شكّلوا حالةً موصوفةَ في المشهد الاتصالي العربي، مُحركات البحث فيها تعمل بمناقبيات أبي الشهيد محمد
آخر جائزة انتهت الى صادق عبد الحق، كانت" سعفةُ الرضا". تسلّمها الأحد الماضي. شوهد يضعها بين دفتي مسودة كتابه القادم، فيما هو يخرج معافى من مهرجان المتحورات.
في طريق العودة الى البيت، اتكأ قليلا على وسادة الحلم، ثم غفا.