انشغل الإعلام والشارع العربي في الأسابيع القليلة الماضية بمناقشة وتحليل مظاهر ودوافع الحراك التركي السريع والفعال المؤيد للحقوق الفلسطينية والمناهض للسياسات الإسرائيلية والذي تمثل في عدة مظاهر أهمها الموقف المميز لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في مواجهة شمعون بيريز في دافوس والسفن التركية التي عملت على محاولة كسر الحصار على غزة ونالت اهتماما ونجاحا إعلاميا كبيرا وتمخض عنها سقوط شهداء أتراك في مصلحة الحقوق الفلسطينية.
كل هذا الحراك التركي وجد صدى مهما في الشارع العربي الذي يبحث وبدون كلل عن رمز سياسي يمكن له أن يقود سياسة منظمة ضد العدوان والغطرسة الإسرائيلية ، وقد تم طرح العديد من الأسباب وراء هذا التحرك ومنها ما ركز على وجود مشاعر إسلامية لدى الحكومة التركية صادقة في سبيل تعزيز الحقوق الإسلامية ومنها ما حاول طرح نظرية المؤامرة ووجود مطامع تركية في لعب دور إقليمي في العالم العربي ردا على عدم قبول الاتحاد الأوروبي تركيا عضوا في الاتحاد.
بغض النظر عن هذه الجدالات السياسية فإن الدرس التركي الحقيقي هو أن الدولة التي يجب أن تتصدى لدور إقليمي وتملك مقومات هذا الدور يجب أن تكون دولة فخورة بتاريخها ، بثقافتها ، باقتصادها وبقدرتها السياسية والعسكرية والتكنولوجية وهذا ما لا ينطبق على الدول العربية كافة.
النجاح الحقيقي لحكومة حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان هو نجاح في إنتشال الدولة والأمة التركية من حالة متهالكة اقتصاديا في العام 2003 (عجز الموازنة %16 ونمو الناتج المحلي الإجمالي ناقص 3% والتضخم 72%) إلى دولة ناجحة وفخورة بعجز تراجع إلى 3% ونمو ناتج محلي وصل إلى %11 (الثاني عالميا بعد الصين) ومعدل تضخم تراجع إلى 8%. هذه قصة نجاح اقتصادية فريدة تسببت بها سياسة مالية وتنموية متميزة نفذها وزراء تكنوقراط اصحاب وعي سياسي وحرب حقيقية وصادقة ضد الفساد والرشوة وفتح تام لكافة منابر التميز والإبداع والريادة في الاقتصاد التركي ، وسيطرة عسكرية شبه تامة على حالات التمرد المختلفة.
كل هذا تم في نمط من الإدارة الإسلامية المتنورة التي لم تركز على مظاهر "اسلمة المجتمع" بقدر ما ركزت على عناصر النزاهة والكفاءة والصدق والإخلاص والامانة في العمل وهي تشكل جوهر الأخلاق الإسلامية المطلوبة في بناء الأمم والمجتمعات.
إذا أراد الشارع العربي والنخب السياسية والاقتصادية أن يأخذوا دروسا من تركيا فإن قصة النجاح الاقتصادي والتنموي المذهلة التي تحققت منذ 7 سنوات تقريبا هي النموذج الذي يجب التركيز عليه لأن العالم العربي بدوله الثرية والفقيرة بحاجة ماسة إلى مثل هذا النمط الاقتصادي الإنتاجي المتميز. نحن ندرك أن تركيا دولة ثرية بالموارد الطبيعية وكبيرة المساحة وشعبها شاب ونشط ولكن الكثير من عناصر النجاح التركية يمكن أن تتحقق في الدول العربية وهذا هو الجزء الذي يتجاهله الكثيرون في التجربة التركية مع أنه الجزء الأهم الذي يزود تركيا الآن بالثقة التي من شأنها أن تحقق لها دورا إقليميا قد يكون مفيدا جدا للدول العربية.
الستور