البلاد والعباد في سؤدد الفؤاد
د. عائشة الخواجا الرازم
06-11-2021 12:09 AM
رداً على الرسائل التي وردتني غاضبة على مقالتي (جنون الحليب أم جنون الغنم ) والتي أستصرخ فيها الحكومة ورافعي أسعار الحليب أن يتقوا الله بدل الانتقام من الأطفال برفع أسعار غذائهم الوحيد . وكأن أصحاب الردود والمكالمات السلبية قرأوا المقالة كما يختزنون في أذهانهم بأنها ضد بلاد وشعب ، فاقول لهم ( طبعا كل إناء مما فيه يفور ) ثم عيب والله أن تستغل مقالاتنا الهادفة لصالح الوطن والناس وتحول إلى هشاشة اعتبار وترتبط بالانتماء والانفصال ، فمن يحب الأردن ويعمل مخلصاً أينما حل وارتحل يقال له من بعض ثلة ضائعة : إذا مش عاجبك الحال ؛ إحمل عفشك وارحال.
ثلة من الغث يكرهون البلاد والأرض والعباد باحتكارهم ادعاء الوفاء والانتماء لأدغال أذهانهم كيفما اتفق الكسل والنوم والعمى عن جبين الوطن الذي يرفعه الناهضون .فسبحان الله حين يكررون عبارة ( إحنا أحسن من غيرنا ) دون مقارنة بالأفضل.
ودوما يتشدقون بشعارات يحفظونها ويحفرونها في عظام قماقم رؤوسهم : ( شوفوا الدول المجاورة ما الذي يجرى وجرى لها ؟ ويتهمون أقلام البناء والإصلاح والنقد المشكور من الله ، بأنها أقلام غير شاكرة للأوضاع والأحوال المعاشة ، فإذن على هذه الاقلام أن تصم الأذن وتغلف الأعين وتعطل المشاعر ، وتتشبث بالرضا وبمضمون ( إحنا أحسن من غيرنا ) .
هؤلاءالناعسون لا يعلمون أن أصحاب الكلمة والموقف والقلم الساخن الصادق هم أعظم القابضين على جمر معرفة ومصلحة وطنهم .
أما الرافضون لمسيرة الإصلاح والتأشير على محطات التعطيل والفساد والظلم ، فهم في غفلة الإهمال وصقيع( البروخ ) راتعون . وينكرون على الوطن صحوة أقلامه التي أرقنا دماءنا وأعمارنا من أجل بلاد طيبة معطرة الريق نحفظها في السراء والضراء وفي خضرة الوطن وفي نار الصحراء .ولعلهم يقرأون شيئا يسيرا من سورة القلم ( نون والقلم وما يسطرون ، ما أنت بنعمة ربك بمجنون ، وإن لك لأجرا غير ممنون ، وإنك لعلى خلق عظيم ، فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون ، إن ربك أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين ) صدق الله العظيم .
ليس دفاعاً وإنما تذكيراً لعقولهم المستفزة نحن في هذا الوطن الحقيقي المسمى بالأردن، وصاحب التسمية التاريخية المتعمقة بجذور الأديان السماوية، نرتبط بالملكوت والفضاء الرباني رغماً عن أنوف المشدوهين ! وللبلاد في هذا البلد الصغير الواحد معانٍ واسعة لا حدود لها ، فيشعر الدارس والقارئ للأردن أنه أمام قارة من الحضور الجغرافي ! ففيه الأنصار وفيه المهاجرون وفيه الضيوف وفيه اللاجئون وفيه النازحون وفيه الهاربون والدخيلون ( ليس الدخلاء ، ولكن من الداخلين على الشهامة والنخوة للنجدة ) وفيه الزوار والسائحون والسياسيون والمثقفون والتجار المغروسون من غير أرضه في أرضه ، والموالون والمعاتبون ، وفيه المغالون بالنقد والتجريح واللامبالاة بتجريح الطيبة فيه !
ومن غير المستغرب ان تمتد فيه خيوط الألم والأمل حتى السماء ! وهو الصغير المحتضن للبكاء طويلاً والدعاء ، والمحتضن للأفراح والمصدق لرسالة التفوق على النفس والطبيعة الصلدة ! كبار في مآسينا، وكبار في مراسينا ! وبالرغم من صحراء الأرض الجافة الواسعة المحيطة بمواليد وبذور الإنسان العربي فيه ، وبالرغم من صخرة التحجر الطبيعي في حدود الصلابة ، إلا أن الحرث في أرضه من عجائب القدر الجميل ، فلا يفتأ الفأس يغرس البحث عن ماء حتى يتفجر الماء ، ولا يفتأ المطر يسقط ولو شحيحاً حتى تتفتق الأرض عن خضارها وزرعها المفاجئ ! ولا يكاد الناظر يبحث عن مشهد الجنة في هذا الوطن الذي نحبه جميلا قويا ونعمل بكل جرأة لنراه أجمل ، نعمل ولا نغفل ، نعمل تحت أنقاض القحط حتى يشم الربيع عطره في عز الأفول !
ونحن لا بحر ولا نهر ولا بحيرة ولا محيط ولا خليج يصب في رئتنا الصغيرة أبداً ! وما الخضرة اليانعة المنتشرة في سمعته في الدنيا إلا من نفوس العاملين الساهرين الأقوياء مثلنا ! تلك النفوس التي ما وطئت الأحزان نفوس أشقائها إلا وانتفضت على طعناتها المؤلمة مضمدة جراحها ، ورأسها يطل قبل رؤوس الآخرين ! وترفع الراية لتظلل أكتاف الضيوف والاخوة والفارين من ظلال الحريق المحيق !ولا يدين لها إلا من رحم بالله بالضمير والذاكرة والعقل المنير ! وذاك على الله ليس بعسير.
(الدستور)