قراءة في المعايير الدولية وتعزيز الإقتصادات النامية
إيمان صفّوري
04-11-2021 08:08 PM
العالمية والأساس الأخلاقي لقواعد ومؤسسات وسياسات المجتمع الدولي تشكل عصب أخلاقيات التعامل مع التحديات المعاصرة، كأخلاقيات التعامل المتعلقة بقضايا تغير المناخ، اللاجئين، حقوق الإنسان، الحروب الأهلية، والعلاقات الاقتصادية الدولية، العدالة بين الدول، والعدالة العالمية. ان علاقة الأخلاق بالسياسة قضية شغلت الفلاسفة على مر العصور كاليونانيون ومفكري الإسلام. وبدايةً، في رحلة البحث في المعاني لدى البشر في سياق التفاعل بين خبراتهم وأفكارهم، كانت البنائية-إحدى نظريات العلاقات الدولية- اتجاها فلسفيا يهتم بهذا الجانب، ويعود لما قبل ثمانينيات القرن العشرين.
ويمكن اعتبار البنائية مُقترب أكثر من كونها نظرية وهي ما تمكّن الباحث من وضع أسس نظرية لظواهر السياسة الدولية وتمكنّه من التنبّؤ دون أن تتنبّأ بذاتها بظواهر عامة. و تعدّ نشأة البنائية في العلاقات الدولية مرتبطة بشكلٍ وثيق بانتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي، وهو الحدث الذي أعفى النظريات التقليدية كالواقعية والليبرالية من تفسيره وهو ما يعود إلى أنّ مبادئ هذه النظريات تركّز بشكلٍ أساسي على القوّة والمصلحة الوطنية حين تدرس العلاقات بين الدول.
و منذ نهاية الحرب الباردة نمت اتجاهات متعلقة بالبلدان النامية: حصة أكبر من الاقتصاد العالمي؛ المزيد من التقنيات التي يمكن الوصول إليها، لا سيما في مجال الاتصالات؛ تداخل في التعاون العالمي في معالجة الاحتياجات الإنسانية الأساسية؛ وخلق التحديات بالرغم من التقدم.
وفي التسعينيات، حفز اهتمام العلماء في التفسيرات البنيوية للسياسة العالمية. كما لاحظ أستاذ العلوم السياسية "باري بوزان" بعد فترة طويلة من الإهمال، يتم جلب البعد الاجتماعي (أو المجتمعية) للنظام الدولي مرة أخرى ليحتل مكانة داخل علم العلاقات الدولية وذلك بسبب الزيادة في الاهتمام بالبنائية".
ويشكّل الأفراد، المنظمات غير الحكومية، الشبكات العابرة للدول الفاعلون الرئيسيون للبنائية. وتتجه للمقاربة نحو السلام وتشجيع الدول على قبول قواعد سلوك ملائمة. وما يميّز البنائية بأنها دراسة متأنية بأن الوعي بكيفية فهمنا للعالم يتشكل فردياً واجتماعياً، وكيف أن الأفكار السائدة تصبغ معتقداتنا حول ما هو ثابت وما يمكن إصلاحه، وتسمح لنا البنائية أن نرى العلاقات الدولية في ضوء جديد ونقدي يمكن من خلاله التغيير و التطوير وما من شأنه تعزيزًا للمعايير الأخلاقية في عالم السياسية والتي تشكل دافعا هامّا من الالتزام المبدئي بقيم مُثلى كالانتصار للعدل والمساواة والحرية واليقين بإمكان تحقيق مجتمعات خالية -أو تكاد- من الظلم والتمييز والقهر عاجلا أو آجلا؛ والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وقيم التجرد والتضحية بالنفس والمال والحق في العيش داخل الأوطان؛ فلولا ذلك كله لما كان هناك سياسة وعمران سياسي وإنساني.
وما يحفّزنا للبحث عن سبل التمكين المجتمعي الدولي، ان الاقتصاد العالمي بدأ في التعافي من الويلات الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا، مع توقع تحقيق معدل نمو بنسبة 5.6% في عام 2021 بحسب إحصائيات البنك الدولي، لكن هذا التعافي متفاوت.
والنتيجة هي أن تأثير جائحة كورونا هو الأكبر بالنسبة للفئات الأشد فقرا في العالم. ففي عام 2021، انخفض متوسط دخل الأربعين في المائة الأشد فقرا من السكان في توزيع الدخل العالمي بنسبة 6.7% عن توقعات ما قبل الجائحة، في حين انخفض متوسط دخل الأربعين في المائة الأشد ثراء من السكان بنسبة 2.8%. والسبب في هذا الاختلاف الكبير هو أن الأربعين في المائة الأشد فقرا من السكان لم يبدأوا في استعادة خسائر دخلهم، في حين استعاد الأربعين في المائة الأكثر ثراء ما تجاوز 45% من خسائر دخلهم الأولية. وبين عامي 2019 و2021، انخفض متوسط دخل الأربعين في المائة الأشد فقرا من السكان بنسبة 2.2%، في حين لم ينخفض متوسط دخل الأربعين في المائة الأعلى ثراء إلا بنسبة 0.5%.
ويشير الاستطلاع الذي أجرته منظمة البنك الدولي لقياس أفضل الطرق لتعزيز النمو الاقتصادي الشامل، في اكتوبر 11، 2021، بأن إيجاد فرص عمل جديدة وزيادة الاستثمارات الخاصة أنجع الطرق لتعزيز النمو الاقتصادي بنسبة 45.1 %، تليها إصلاح السياسات بنسبة 32.1 %، ويسجل الاستثمار في شبكات الأمان التي تركز على الفئات السكانية الأكثر احتياجا والأولى بالرعاية نسبة 19.1%، ضمن الوسائل الفعالة لتحسين الاقتصاد الشامل، ويعتبر إجراء التوسع في زيادة توزيع اللقاحات محفزّا في العملية الاقتصادية التنموية بنسبة 3.7 %.
وللمضي بخطوات فاعلة نحو التعافي الاقتصادي الشامل، بالبداية وجب التنويه للحاجة إلى ضمان إدارة أفضل في البلدان النامية نفسها، مصحوبة بمزيد من الديمقراطية وسيادة القانون، وتعزيز أكبر لحقوق الإنسان، وكذلك السلام والاستقرار الإقليمي والداخلي. اضافة الى ذلك، توجيه المزيد من الاستثمار إلى الخدمات المقدمة للفئات الأقل دخلا، كمجالات الصحة العامة الأساسية والتعليم، ولا سيما للفتيات والشابات اللاتي يُنظر إلى تمكينهن على أنه أمر حاسم للتنمية.
كما يتطلب تفعيل اكبر لنظام تجاري دولي، يساند العديد من الدول النامية في تقليل الاعتماد المفرط على صادرات المواد الخام مقابل السلع والخدمات المستوردة، في حين أن استمرار دعم الصادرات في البلدان الصناعية، وخاصة بالنسبة للسلع الزراعية يقوض المنافسة الدولية العادلة.
بالاضافة لذلك، انّ الإصلاحات قادرة على دفع النمو ورفع مستويات المعيشة؛ واستنادا إلى البحوث التجريبية لمدونة صندوق النقد الدولي نشرت بأكتوبر 2019 بشأن الإصلاحات في 48 سوقا صاعدة حالية وسابقة و 20 اقتصادا ناميا، يتبين أن الإصلاحات يمكن أن تحقق منافع كبيرة. ولكن هذه المكاسب تستغرق وقتا حتى تتحقق وتختلف باختلاف أنواع القواعد التنظيمية المطبقة. فعلى سبيل المثال، إصلاح التمويل الداخلي بالحجم الذي حدث في مصر عام 1992 يؤدي إلى زيادة الناتج بحوالي 2% في المتوسط بعد ست سنوات من التنفيذ.
ونحصل على نفس النتيجة بالنسبة لإجراءات مكافحة الفساد التي تكون آثارها كبيرة على المدى القصير وتستقر عند حوالي 2% على المدى المتوسط. وفي مجالات الإصلاح الأربعة الأخرى – التمويل الخارجي والتجارة وأسواق المنتجات وأسواق العمل – تبلغ المكاسب حوالي 1% بعد ست سنوات من تنفيذ الإصلاح. وهذا وفق ما خلص اليه تقرير آفاق الاقتصاد العالمي؛ بأنّ تنفيذ الإصلاحات الكبرى في ستة مجالات أساسية في نفس الوقت – وهي التمويل الداخلي، والتمويل الخارجي، والتجارة، وأسواق العمل، وأسواق المنتجات، والحوكمة – هو ما يمكن أن يضاعِف سرعة تقارب الدخل في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية مع مستويات المعيشة في الاقتصادات المتقدمة. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى رفع مستويات الناتج بأكثر من 7% على امتداد ست سنوات.
وفي البلدان التي يكون الاقتصاد فيها ناميا، يمكن ان تُعطى الأولوية للإصلاحات التي تدر عائدا بصرف النظر عن الأوضاع الاقتصادية – مثل تعزيز المنافسة في سوق المنتجات – وعمل إصلاحات أخرى لتخفيف أي تكاليف قصيرة الأجل – مثل سن إصلاحات لحماية الوظائف ودعمها ماليا ان امكن ذلك. وتحقق الإصلاحات أفضل النتائج أيضا إذا تم وضعها في حِزم وتحديد تسلسلها بصورة صحيحة. وجدير بالذكر أنها عادة ما تحقق مكاسب أكبر في البلدان التي تتسم بقوة الحوكمة. ويعني هذا أن تقوية الحوكمة يمكن أن تدعم النمو الاقتصادي وتَقارُب الدخل، ليس فقط بشكل مباشر عن طريق تحفيز المشروعات الرسمية الأكثر إنتاجية على الاستثمار وتوظيف العمالة، بل بشكل غير مباشر أيضا عن طريق تعظيم ثمار الإصلاحات في مجالات أخرى.
وفي هذا المنعطف الحقيقي الذي يشهده العالم أثناء و بعد كوفيد-19، يمثل التعاون الدولي مطلبا ضروريا لتأمين مستوى أفضل من التعافي لكل البلدان وتشجيع المضي بخطى حثيثة نحو التقارب العالمي في مستويات دخل الفرد بين البلدان المتقدمة والنامية. وباتخاذ التدابير الاستثنائية كذلك؛ على مستوى السياسة، من أجل دعم النشاط الاقتصادي وحماية الوظائف والدخل المعيشي، وتوفير الحماية الاجتماعية لا سيما لمحدودي الدخل، وتقوية نظم الصحة العامة، وتسريع وتيرة التحول الرقمي، والحفاظ على الصلابة المالية. وقد أدت حزم التدابير التنشيطية الكبيرة في البلدان المتقدمة إلى التخفيف من حدة آثار الجائحة عالميا، مع الحث على عدم إنهاء الدعم الممنوح من قبلها قبل الأوان. وتقدّر المساعدة الدولية للبلدان النامية بنحو 2,5 تريليون دولار. و تثمّن البلدان النامية جهود المؤسسات المالية الدولية و المجتمع الدوليي، الدعم المساهم في التنمية وتقليل المخاطر. وبات لزامًا أن تعمل كل الاقتصادات الرئيسية معا وأن تستخدم كل أدوات السياسة المتاحة لتشجيع خلق بيئة تزداد فيها التجارة وثقة المستثمرين من أجل اعطاء الفرص لنمو الاستثمار في كل البلدان.
ومما لاشكّ فيه، ستشهد السنوات والعقود القادمة تغييرات وستكون هناك قضايا ذات أولوية: كتغير المناخ، والتغير التكنولوجي، والاحتواء. مما يتطلب المزيد من التهيئة ومواكبتها لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. اذ انّ التحول إلى اقتصاد أخضر يوفّر فرصا عديدة : التحول إلى المصادر المتجددة، وشبكات الكهرباء الجديدة، وكفاءة الطاقة، والنقل منخفض الكربون. والثورة الرقمية كذلك تتيح فرصا هائلة. فزيادة الاستثمارات في البنية التحتية الرقمية عامل رئيسي، يصحبه الاستثمار في التعليم والصحة وفي البحوث الأساسية. وهكذا يمكننا أن نجعل الاقتصادات أكثر إنتاجية وأكثر احتواء.
وقد اتخذت العديد من البلدان النامية وخاصة دول الشرق الأوسط حزم إجراءات حثيثة و متتابعة لمجابهة التداعيات السلبية التي حلّت باقتصادات دولها، مع الابقاء على استجابة فاعلة جعلت العديد من الفرص والمجالات متاحة للتطوير والتنمية، مما يخلق الدافعية والتحفيز بحاضر وقادم ملئ بالإنجازات تضاف لما قامت به على أرض الواقع ولاتزال تبذل الجهود في سبيل تماسك مجتمعاتها وتقدم شعوبها.