في الديمقراطية والدولة .. ضرورات الوعي الجمعي
مالك العثامنة
02-11-2021 03:09 PM
هناك حاجة ضرورية لإعادة توضيح المفاهيم ووضعها في سياقها الصحيح في العالم العربي المشغول بإعادة ترتيب نفسه، والمأزوم بالإخفاقات في كل ترتيب جديد يحدث.
كنت في مقال سابق قد تحدثت عن الأردن وعملية الإصلاح فيه كنموذج من نماذج العالم العربي الأكثر تجليا ربما، وفي المقال ذكرت أن الحديث عن حكومات ديمقراطية ذات صبغة برلمانية بتمثيل حزبي قبل ترتيب "بنية" الدولة نفسها، أو استعادتها كمفهوم صحيح للدولة ككيان مؤسساتي قانوني جامع، يشبه وضع العربة لا أمام الحصان فقط، بل أمام فراغ إذا افترضنا أن الدولة هي الحصان المفقود هنا.
الأمر نفسه ينسحب على كل عالمنا العربي المتعطشة شعوبه لنماذج الدول الغربية، لكنها نسيت أهم مكون لتحقيق النموذج الديمقراطي الصحي والسليم، وهو وجود الدولة، وتلك ليست مسؤولية "السلطة" وحسب، بل مسؤولية الوعي الجمعي المفقود أساسا بعد عقود طويلة من الفساد والترهل ومنظومة شبكات بديلة عن "المؤسسات والقانون"، استمرأت الشعوب العربية استحداثها بالتراكم التاريخي.
في بلجيكا مثلا حيث أقيم وأعيش وأعمل، وهي من النماذج الديمقراطية الغربية المثالية في الحكم الديمقراطي، غابت الحكومة الحزبية عن الوجود مدة ٥٨٩ يوما، وبقيت بلجيكا بلا حكومة حتى عام ٢٠١١، ودخلت بلجيكا موسوعة "غينيس" في تلك السابقة التاريخية بغياب حكومة منتخبة، لكن الدولة كانت موجودة وحاضرة بمؤسساتها القوية والمتينة وبقيت مصالح العموم تسير على نسق مؤسساتي ضمن حكم القانون بلا أي عثرات تحت ظل حكومة تسيير أعمال معينة، إلى أن توافقت الأحزاب على حكومة ترأسها شخص هو ابن مهاجرين إيطاليين، وعادت الحكومة المنتخبة إلى الحياة في المشهد السياسي البلجيكي الذي صانت وجود الدولة فيه المؤسسات وحضور القانون.
في الولايات المتحدة التي يراها الكثير نموذجا للديمقراطية ( وهي حقيقة نموذج ديمقراطي ) أصر الآباء المؤسسون على فكرة الدولة في وثيقة التأسيس، وضع مفهوم الدولة كحجر أساس قبل كل شيء، وتعظيم المؤسسات والقانون فوق الأفراد، ثم الحديث بطريق مواز عن الحياة الديمقراطية، ومن هنا يمكن فهم الإصرار الأميركي، بعد أحداث اقنحام متطرفين يمينيين مبنى الكونغرس عقب انتخاب الرئيس، جو بايدن، على ترسيخ مفهوم الدولة ورمزيتها قبل الحديث عن "الديمقراطية".
في عالمنا العربي عموما، هنالك خلط فادح الخطيئة بين المفهومين، وإصرار على بناء العربة المزركشة بكل زينتها الديمقراطية الملونة، قبل أن نضع الحصان ( الدولة) في مكانه.
إن عربة مزركشة كاملة الزينة والرفاهية لن تتحرك سنتمترا واحدا بدون حصان يجرها، وإن ذات العربة بكامل ألقها لا يمكن أن تسير مسافة طويلة وهي مربوطة بحصان هزيل تنقصه العافية، بمعنى دولة حقيقية مدججة بوعي مؤسساتي سليم.
الطريق طويلة نحو مفهوم الدولة في عالمنا العربي، نظرا لتراكم الجهل بمعناه المؤسساتي الحقيقي، وغياب الوعي الجمعي خلق مؤسسات الفساد وانتشار وهم "الروح الوطنية" الذي يمكن تلبيسه على أي فئة تملك القوة العسكرية، أو تملك النفوذ المجتمعي عبر "التدين" ووضع الحلول في يد السماء !
الديمقراطية "مكتملة" نظريا في لبنان، لكن غياب الدولة المؤسساتية لحساب المحاصصات الطائفية وضع عربة الديمقراطية في منتصف الطريق بكامل زركشتها وبهرجتها اللونية متوقفة، لأن الدولة نفسها غابت وحضرت "الزعامات"، وجماعات المصالح تتصارع على السلطة بالوكالة عن دول الخارج.
ولك أن تقيس ذات الأمر في السودان وتونس والعراق وباقي الدول التي انتفضت شعوبها للبحث عن نموذج ديمقراطي، يمكن فيه تداول السلطة! أي تداول في غياب المفهوم المؤسساتي المتين والمجرد للدولة، ككيان يجمع الجميع على اختلاف آرائهم تحت سلطة القانون وضوابط الدستور المتفق عليه؟
العالم العربي، بحاجة إلى انتفاضة وعي مجتمعي تنفض عنه أول ما تنفض العشائرية والطائفية والإقصاء الديني والمتحدثين باسم السماء أيا كانوا.
بغير ذلك، ستبقى العربة بكل ألوانها المبهرة مجرد عربة تشبه عربات قصص الخيال ولا حصان.
الحرة