عندما وصلت عمان الساعة الثامنة من صباح أمس، استنشقتها. أخذت أعبُّ عمان بعينيّ ورئتيّ كأنني لم أستنشق هواءها من قبل، ولم تلسعني نسمة برد صباحاتها. كأن يديّ لم تلمس قطرة الندى المعرش على صدر أوراق أشجارها، وعلى جدران أحجارها.
جلست أنتظر على باب القادمين مندوب مكتب تأجير السيارات وقد تأخر عن موعده. لم أكن أفكر في الوقت رغم ارتباطي بموعد لتناول إفطار «بلدي» أعده عاشق كريم لأحبابه. وصل المندوب وأنا أتأمل الأفق، وأعيش الانتظار. وصل ملهوفاً معتذراً. قلت له أن لا يعتذر على تأخره، وإنما على إفساد متعة انتظار كنت أعيشه، كما ينتظر الرجل العاشق محبوبته. الحياة بلا انتظار فكرة خاطئة. انتظار حضن عمان، وصدر عمان، وعناق جدائلِها وقد أرخت جدائلَها فوق الكتفين.
قدت السيارة بتؤدة. فتحت النوافذ من كل جانب. عرّضت نفسي لنسمات عبيرها. كان حانياً، منعشاً، رطباً. أخذت أتأمل شجر الدفلى على جانبي الطريق. تتدلى الأغصان كخصلات شعر النساء. ما عاد مستغرباً أن ترى شعراً أخضر، أو أصفر، أو أحمر، لفتاة راق لها واحد من ألوان الطيف. قلت لنفسي: تلك جدائل عمان، وتلك منازلها، وأنا على أبواب مداخلها. ثم خطرت لي فكرة: هل هذا ما قصده حيدر محمود في عشقه للجدائل. عن أي جدائل يتحدث؟ قلت: لكل منا رؤيته عندما تأتي مواعيد غزل العاصمة. كنت منشغلاً طوال النهار. التقيت أصدقاء الحب على الإفطار في بيت عميد «الدستور» الذي ألف صناعة الجمع، ويخشى الفرقة والشعور بالبعاد، ثم اختطفني صديقي مفلح العدوان، الروائي الشفيف لنأخذ «أنفاس أرجيلة»؛ «زغلول» طبعاً، ونشرب كوباً من «دم الزغلول»، وأسارع للالتقاء ثانية بأخي مصطفى الريالات رئيس التحرير المسؤول في «الدستور» لنتحدث كالعادة في الهم الصحفي، وفي إبقاء شعلة الأمل متقدة، ونراهن على رهاننا أن القادم أفضل.
فكرة الجدائل كانت ما زالت تداعبني وأنا أطلب من «الرئيس» تأخير موعد تسليم مقالتي طيلة فترة إقامتي في عمان، بسبب انشغالي اليومي في مؤتمر الجامعة الهاشمية الذي سينطلق عند صدور هذه المقالة. لم يبخل كعادته. منحني ساعات إضافية. جلست أكتب. خطرت لي فكرة. اتصلت بالشاعر الكبير حيدر محمود. سألته: أين رأيت جدائل عمان؟ قال: لماذا؟ قلت: لأنني قررت أن أتغزل بجدائلها في مقالتي غداً. قال: أين رأيت جدائلها؟ قلت في أغصان شجر الدفلى المتدلية بدلال من رأس الشجرة حتى جذعها، لتطوقه من كل جانب. قال: كل عاشق لعمان يرى جدائلها فيما يهوى. سأقول لك أين تكمن جدائل عمان في القصيدة بعد أن تكتب مقالتك. كنت لحوحاً، فأباح بالسر: إنها أدراج عمان التي تتدلى من رأس الجبال حتى تصل إلى السيل.
كان أهل عمان في الماضي يصعدون الأدراج، وينزلون الأدراج، ويصلون إلى سيل تم سقفه - سامح الله من سَقَفه - أدراج عمان شرايين جبالها، روح تراثها. مهد حكايات العذارى. ملجأ السكارى. وسيلة نقل أبنائها. مهد مناجاة عشاقها.
«حكايات الدرج» لمجدي دعيبس، هي حكاية جديلة من جدائلها. أدراجها منصات مبدعيها. مسرح شقاوات أولادها. مجرى أمطارها. مسقط مزاريبها. حلو حامضها. ذاكرة تاريخها. وعتبات لهو أطفالها الذين غنوا على عتباتها: اليوم العيد يا لالا، ولبست جديد يا لالا، فستان مكشكش يا لالا، ع الصدر مرشرش يا لالا.
هل عرفتم الآن أين تغفو جدائل عمان ؟
(الدستور)