الانحطاط، وأشكاله ومستوياته، شيء، وتمجيد الانحطاط شيء آخر تماماً.
في دنيانا الراهنة، أو في دنيا بلاد العُرب اوطاني، بكل أوطانها، التي ضربها طاعون الانحطاط، في عيشها وثقافتها ومستويات علاقاتها البينية؛ في تلك الدنيا الموبوءة، ثمة ما يمكن رصده، والوقوف عنده، في متوالية انهياراتها، غير الانحطاط ذاته.
قد يكون مفهوما أن تصل الشعوب ودولها إلى مرحلة الانحطاط الشامل، فتلك مراحل تمر بها الأمم والأفراد في مسيرة هبوطهم وارتقائهم؛ أما ما هو غير مفهوم، بل ويصعب تفسيره، فهو أن تصل تلك الشعوب وأفرادها إلى مرحلة تمجيد الانحطاط الذي تمر به، والشواهد على ذلك كثيرة، والتفاصيل أكثر، وتصعب الإحاطة بها في هذه المساحة.
لقد فقدت الكلمة شرفها عند العرب، فكل هذا القبح والذمامة والتشوه هناك من يتصدى لإلباسها ثوب الجمال والحسن والبهاء حيث يتم التسابق والتغني والتعظيم والاشادة بهذه البشاعة من قبل تجار الانتهازية والنفاق والارتزاق على حساب لقمة عيش الناس وكرامتهم وحاضرهم ومستقبلهم ووجودهم المحاصر بهذا الطوفان من تجليات الانحطاط بصور لا تعد ولا تحصى ولا تتسع للإحاطة بها مجلدات.
تمجيد الانحطاط يعني الوصول إلى درجة عالية من التكاذب المجتمعي والسياسي، ويعني أيضا الوصول إلى مرحلة تسمم جذور القيم والأخلاق والجدوى، في حياة الأفراد والشعوب والدول.
في قرن العرب الهجري الرابع، الذي وافق قرن العالم الميلادي العاشر، مرّ العربُ في حياتهم كأمة ببداية أسوأ عصور انحطاطهم، وعلى كل المستويات السياسية والاقتصادية. غير أن ثقافتهم العامة شهدت أيضا أعلى مرحلة صعود لافتة، في الشعر والأدب والأفكار. ولعل سيرة أبي العلاء المعري خير شاهد على ذلك الصعود. وفي الوقت عينه، شكلت مضامين سيرة الشاعر المتنبي استبطانا فادحا لصراخ الانحطاط في حياة الأمة، بتزامن وتناقض وانتهازية مديحه وهجائه للتيارات المتعارضة من مسؤولي عصره معا، وفي عصر الانحطاط العربي نفسه..!
لا تصل الشعوب إلى مراحل تلاشيها فجأة، بل تسبقها علامات وإشارات لافتة، تماما كما تسبق علامات الخريف مواسم الشتاء. وفيها أن الانحطاط يضرب مفاصل حياة الناس، ويغمر كل مناحيها؛ وقد أضيف اليوم علامةً جديدة لمرحلة الموت والتلاشي الجماعي، وهي تمجيد الانحطاط في الحياة اليومية والعامة، بما يعني وصولنا جميعا إلى مرحلة، ربما تكون غير مسبوقة، في سيرة تلاشي الجماعة الإنسانية من الوجود..!