كل ما فعلته مديرة المختبرات السابقة بمؤسسة الغذاء والدواء (سناء قموه) أنها قدمت للرأي العام شهادتها حول شبهات فساد غذائي، استندت فيها للعديد من البحوث والدراسات العلمية التي أجرتها بمساعدة باحثين آخرين، النتائج كانت صادمة، ومع ذلك كان يمكن أن تخضع للنقاش العلمي، أو أن تدفع الجهات الرسمية لفتح تحقيق فيما ذكرته من وقائع.
لكن ما حدث هو أن “الشاهدة” وضعت في قفص الاتهام، ثم انقسم الجمهور بين مؤيد لها ومعارض، أما المسؤولون المقصرون، والآخرون المتهمون بالتورط في إطعام الأردنيين غذاء ملوثا فلم نسمع عنهم شيئا، وربما لن يحاسبهم أحد.
ما ذكرته أستاذة تكنولوجيا الغذاء سبق لها أن كررته، منذ أكثر من عشر سنوات، بالتلميح والإشارة تارة، وبالتذكير والنصح تارة أخرى، ما يعني أنها لم تتأخر عن إعلان قناعاتها، ولم تتستر على الخطأ خوفا على وظيفتها (استقالت العام 2008)، زد على ذلك أن قضية الغذاء الفاسد سبق لوزير الصحة، عبدالرحيم ملحس (رحمه الله)، أن “فجرها” على الملأ قبل نحو ثمانية وعشرين عاما.
في آذار 2012 نشرت إحدى الصحف اليومية وثائق رسمية عن دخول كميات كبيرة من الأغذية غير الصالحة للاستهلاك البشري إلى السوق المحلي في الفترة ما بين 2004-2007، وقد كشف تحقيق رسمي آنذاك أن عاملين في مؤسسة الغذاء والدواء ووزارة الزراعة ومؤسسة المواصفات والمقاييس تورطوا في القضية، ولم يعرف، كما ذكرت الصحيفة، عن أي إجراءات تمت ضد المتورطين، او عما إذا كانت توصيات لجنة التحقيق تم الأخذ بها أم لا.
تعمدت الإشارة إلى هذه الوقائع للتذكير أن امكانية وجود فساد غذائي مسألة واردة، وأن “سمعة بلدنا” الغذائية لا يمكن أن تسقط أو تشوه جراء الإعلان عن مثل هذه الأخطاء والتجاوزات، كما أن الذين تجرأوا على نشرها أو الإعلان عنها هم مواطنون أردنيون، لا يجوز لأحد أن ينتقص من وطنيتهم، وحرصهم على المصلحة العامة، وإذا ثبت عكس ذلك فإن الفيصل هو المحكمة.
لهذا فإن محاولة شخصنة القضية أو ادراجها في خانة الإساءة للبلد، أو التغطية عليه بذريعة التشكيك في مصدرها أو التنمر عليه لإسكاته، تعيدنا إلى مربع الخطأ، ثم الإصرار عليه، ويدفع ثمن ذلك الناس من صحتهم وأرواحهم، ثم مؤسساتنا من صدقيتها وكفاءة العاملين فيها، فيما الرابحون طبقة من الفاسدين الذين اعتدوا على أموالنا، وتمددوا للاعتداء على غذائنا أيضا.
لا يمكن الجزم أن النتائج التي توصلت اليها أبحاث (قموه) صحيحة تماما، إذ لا يوجد في العلم حقائق ثابتة لا تخضع للنقاش والبحث المتواصل، كما أن تعميم نتائج أي دراسة على قطاع كامل، كالغذاء، غير مقبول، لكن ذلك لا يعني أبدا عدم صحتها، كما لا يعني المسارعة لرفضها دون تدقيق ومراجعة وردود علمية، خاصة إذا كانت رسالتها وصلت الى الرأي العام وأثرت فيه، في توقيت يميل فيه المزاج الشعبي لتصديق كل ما يصله من أخبار حول الفساد.
صحيح أن فزاعات تخويف الناس من الكلام سقطت، لكن في المقابل تشكلت لدينا طبقات، في مختلف المجالات، تبحث عن الشهرة والشعبوية، وتسوق نفسها بطرق مختلفة، هنا الحذر واجب، ويجب أن نفتح لواقطنا على مسألتين، الأولى التحري من دقة المعلومات ومصادرها، والتريث قبل تصديقها أو إطلاق الاحكام عليها.
المسألة الأخرى هي أن تتحمل المرجعيات الرسمية (بالتعاون مع أهل الاختصاص وبيوت الخبرة) مسؤولياتها في تصحيح أو تأكيد ما يصدر للمجتمع من رسائل، ثم محاسبة من أخطأ من كافة أطراف المعادلة، لو حصل ذلك، في قضية شبهات تلوث الغذاء الأخيرة، لما حدث هذا الارتباك واللغط، ولما بقي المتهمون طلقاء، ووضعت الشاهدة -فقط- في مرمى نيران الجمهور، أو قفص الاتهام.
(الغد)