يتصاعد السجال داخل الجسم القضائي منذ أقرت الحكومة قبل أسبوعين قانونا معدلا لقانون استقلال القضاء, بالتزامن مع تحرك المجلس القضائي لإقالة أربعة من كبار قضاة محكمة التمييز- أعلى سلطة قضائية في البلاد- وذلك بعد رفع رواتبهم.
فبين ليلة وضحاها احتدمت ساحة القضاء بمعارك إعلامية, في سابقة تهدد بالمس بهيبة سلك يعد خط الدفاع الاخير عن حقوق الاردنيين وسلطة مستقلة تظل في نظر الكثير من العباد محترمة ونزيهة رغم ملاحظات هنا وهناك, باعتبار أن البشر غير معصومين عن الخطأ.
القانون المؤقت الاخير كان رابع تشريع من نوعه يمس إدارة قضايا الدولة, محكمة الجنايات الكبرى, العقوبات والنيابة العامة ضمن خطط تصفها وزارة العدل بأنها تستهدف تحديث الجهاز وتسريع إجراءات التقاضي. مذ ذاك يشهد قصر العدل حراكا احتجاجيا فاجأ المراقبين, لجهة اتساع دائرته ونوعية القائمين عليه من سدنة القضاء.
أزيد من 100 قاض من غالبية الدرجات سطّروا مذكرة احتجاج لرئيس المجلس القضائي الاعلى الاستاذ راتب الوزني, ضد القانون المؤقت الاخير الذي اعتبروه خرقا دستوريا. هذا الاحتجاج يفترض أن ينطبق على عشرات القوانين المؤقتة التي أصدرتها حكومة سمير الرفاعي منذ حل مجلس النواب نهاية العام الماضي من دون إبداء أسباب.
القضاة المحتجون طالبوا بوضع حد لما يرونه تدخلا من السلطة التنفيذية في شؤون القضاء, عبر وزير العدل أيمن عوده الذي يجلس على مقعده منذ ثلاث سنوات.
يصر القضاة على أن القانون "يمسهم" ولم يعرض على المجلس القضائي لمناقشته وإبداء الرأي حوله, مع أن الاستاذ الوزني هو من أرسل القانون المؤقت لرئيس الحكومة التي أقرته بعد أن استأنست برأي ديوان الرأي والتشريع برئاسة القاضي هشام التل, وزير العدل السابق.
قبل عشرة أيام, اجتمع القضاة المحتجون برئيسهم. كان الحوار صريحا وإيجابيا, بحسب مشاركين, لكن صبيحة الاربعاء الماضي اعتصم محامو الكرك لمدة ساعة في قصر العدل ضد القانون المؤقت وسط تكرار المطالبات باستقالة الوزير. تحركت غالبية وسائل الاعلام المحلية ذات الملكية الخاصة لتغطية الاحداث المتلاحقة التي كانت تظل غالبا طي الكتمان في الماضي, ودخلت الشبكات الاعلامية العربية على الخط.
خرجت القصة للعالم.
واليوم يفكر عدد من القضاة في رفع دعوى لدى محكمة العدل العليا للطعن في دستورية القانون المؤقت على اعتبار انه لا توجد ظروف طارئة تستدعي إقراره قبل عقد الانتخابات التشريعية أواخر العام, وهم ينتظرون أيضا ببالغ الصبر تشكيلة المجلس النيابي القادم لإسماعه ما يعتبرونه مخاوف مشروعة من وجهة نظرهم, في محاولة لتغيير القانون.
في المقابل فضّلت السلطة التنفيذية الصمت حيال تحركات القضاة على أساس أن المجلس القضائي الاعلى وليس الاعلام هو المنبر لبحث أي أمور تتصل بعلاقة السلطتين.
كما يعتقد بعض الوزراء بأن جهات من خارج السلك القضائي تدفع باتجاه التأزيم مع السلطة التنفيذية ل¯ "مصالح شخصية مغلفة أحيانا كثيرة بصبغة إقليمية أو اجتزاء للحقيقة". إلى ذلك يصرون على أن عددا من القضاة وقّع العريضة الاحتجاجية من باب "مجاملة الزملاء" مع أن الكثير منهم القضاة يعتقدون بأن العريضة كانت ستجد عددا أكبر من الموقعين لو كان هناك ناد للقضاة يلتقون فيه "لآن السيل بلغ الزبى", بحسب رأي بعضهم.
كذلك لا يتفهم الوزراء المعايير التي يعتمدها القضاة المحتجون وبعض كتاب الزوايا والمواقع الالكترونية المتعاطفة معهم يرون أن ما يحدث جزء من مخطط مبرمج يحاكي مطالب المانحين لفكفكة الجسم القضائي حتى يغدو على مقاس السلطة التنفيذية التي تستغل غياب مجلس الامة لإصدار سلسلة قوانين مؤقتة من أجل تسيير شؤون الدولة رغم جدلية الظروف الموضوعية.
الرواية الرسمية, بعكس كلام المحتجين, تتحدث عن "تحديث شامل" للسلك القضائي بما في ذلك تسهيل إجراءات التقاضي وملء النقص في قضاة الاستئناف, رفع إنتاجية محكمة التمييز والتركيز على العنصر البشري بما فيه برنامج "قضاة المستقبل" المفتوح أمام أبناء وبنات المحافظات الاثنتي عشرة للحصول على مقاعد متساوية تتوزع مناصفة بين الذكور والانات.
بحسب تقرير التنافسية للبنك الدولي 2010 والمعايير العالمية المعتمدة, حل الاردن ضمن أفضل ثلث دول العالم في مجال استقلال القضاء, متقدما على دول أوروبية كالبرتغال, ايطاليا واليونان; وآسيوية كالهند, ماليزيا والباكستان. كما أن هناك 13 قاضيا لكل 100.000 نسمة في الاردن أي ضعف المعايير العالمية; 6.74 قاض لكل مئة ألف نسمة.
مقارنة مع قانون استقلال القضاء لعام ,2001 لم تدخل الحكومة أي تعديلات "تعود بالسلطة القضائية إلى الوراء, أو تزيد من تدخل السلطة التنفيذية أو تقلل من استقلال القضاء", بحسب وزراء تحدثوا إلى كاتبة المقال. ارتباط النيابة العامة إداريا بوزير العدل منصوص عليه في القانون السابق, أما الحالي فقيد بصورة أوضح شكل هذا الارتباط, بحسب نظام جديد بما يحافظ على استقلال النيابة العامة, بحسب الرواية الرسمية, كذلك تعززت سلطة رئيس النيابة العامة "المفتش الاول", أي رئيس جهاز التفتيش القضائي الذي يعين بقرار من المجلس القضائي وإرادة ملكية سامية تمنحه حصانة. وفيما يتعلق باستحداث امتحان ترفيع للدرجات الاعلى, الذي يرفضه القضاة المحتجون, يؤكد وزراء أنه حل مكان شرط تقديم "بحث قانوني مبتكر". من الان فصاعدا, يترفع القاضي بعد أن يجتاز مقابلة مع لجنة من كبار القضاة لتقرير أهليته للترفيع وفق معايير واضحة ومحددة.
المحتجون يجادلون في المقابل بأن شروط تعيين القضاة تخضع المرشح للمقابلة قبل ملء الوظائف القضائية الشاغرة من الدرجات السادسة وحتى الاولى, ما يعني عدم حصر المسابقة القضائية بالدرجات السادسة والخامسة والرابعة. كذلك يعفى المرشح الحاصل على دبلوم المعهد القضائي من المسابقة القانونية.
في السياق ذاته لم تتعدل الفقرة (أ) من المادة ,19 التي تنص على ترفيع القضاة من درجة إلى درجة على أساس الجدارة والكفاءة المستمدتين من تقدير المجلس ووفقا لتقارير المفتشين الواردة عنهم ومن واقع أعمالهم, مع مراعاة العقوبات التأديبية المفروضة, وعند التساوي يرجح القاضي الاقدم على أن يقترن قرار الترفيع بإرادة ملكية.
القانون الجديد ينص: لغايات الترفيع إلى الدرجة الثالثة تجرى مقابلة للقاضي الذي أكمل المدة المنصوص عليها في الفقرة (أ) من هذه المادة من قبل لجنة يعينها المجلس من غير أعضائه مشكلة من خمسة قضاة من الدرجة العليا لتتولى التنسيب لهذا المجلس بهذا الترفيع استنادا للأسس الواردة في هذه الفقرة. إذا قررت اللجنة عدم التنسيب بالترفيع, فيعاد إجراء المقابلة في السنة التي تليها. وإذا قررت عدم التنسيب للمرة الثانية, يحال القاضي للاستيداع أو التقاعد إذا أكمل المدة اللازمة لذلك.
ولغايات تنفيذ ذلك, يجوز إحالة القاضي على الاستيداع إذا أكمل عشر سنوات متصلة, وفي هذه الحالة يعد محالا حكما على التقاعد بمرور خمس سنوات كاملة من تاريخ إحالته على الاستيداع. وترى الحكومة أن ذلك ضمان لحقوق القاضي المالية, لكن القضاة يخشون من أن لجنة التنسيب قد لا تكون عادلة وتنجح المطلوب ترفيعه وتظلم غيره. وكذلك يشكوّن بأن التغييرات التي طالت تركيبة التمييز ربما اتخذت استباقا لوصول قضية المصفاة المثيرة للجدل إلى هذه المحكمة, بعد أن تصدر أمن الدولة حكما بشأنها هذا الاسبوع.
صدر بموجب قانون استقلال القضاء نظام التفتيش القضائي الذي ظل جهازه مرتبطا بوزير العدل حسب النظام الصادر لسنة ,2005 فضلا عن صدور نظام الخدمة القضائية. وصدر بموجب قانون تشكيل المحاكم نظام رسوم المحاكم وقوانين أصول المحاكمات المدنية, أصول المحاكمات الجزائية, محاكم الصلح, البيّنات, التنفيذ, الكاتب العدل والوساطة لتسوية النزاعات المدنية.
أما مهام القضاة ال¯ 793 وتوزيعاتهم فهي: 682 قضاة حكم سواء في الدعاوى الحقوقية أو الجزائية; 89 في النيابة العامة التي تمثل المجتمع في إقامة دعوى الحق العام وهي تقوم بوظيفة "التحقيق الابتدائي", القضائية ما يستدعي بقاءها إحدى المكونات الاساسية للسلطة القضائية, ولذا كان من الضروري تطوير نظام النيابة العامة كشرط جوهري ومسبق لتطوير نظام العدالة الجزائية, بحسب الرواية الرسمية.
لكن الحكومة تقر بوجود بعض التحديات في نظام العدالة الجزائية, ما استدعى تطوير نظام النيابة العامة طبقا للقوانين المؤقتة والانظمة التي صدرت أخيرا, فمن شروط المحاكمة العادلة, أن يكون التقاضي على درجتين. ومن الممارسات الفضلى أن تكون الدرجة الثانية مرافعة وليس تدقيقا, وأن يقوم قضاة الصلح بدور المدعي العام خارج مراكز المحافظات, كذلك يتطلب انتداب ضباط الشرطة بصفتهم ضابطة عدلية لممارسة مهام النيابة العامة لدى المحاكم البدائية والصلحية, وضرورة توفر الخبرات التراكمية والتخصصية لدى أعضاء النيابة, سيما أن نسبة القضايا التحقيقية التي أحيلت من النيابة العامة إلى المحاكم عام 2009 وانتهت بإعلان البراءة أو عدم المسؤولية بلغت 46.4%.
من بين الاهداف المنشودة من إصدار قانون النيابة العامة زيادة أعضائها من 89 حاليا لتسريع الفصل في الدعاوى الجزائية, كما أن استمرار عمل المدعين العامين لفترات تتعدى 12 سنة سيراكم الخبرات لديهم, في حين يخضع القائمون بوظائف النيابة العامة أمام المحاكم النظامية لرقابة رئيس النيابة العامة, بما في ذلك الجمركية والضريبية والمدعون العامون في البلديات. ويعزز القانون الجديد, بحسب الحكومة, دور رئيس النيابة العامة في الاشراف على جميع شؤون النيابة العامة وتوفير نيابة متخصصة تحديدا في القضايا التي تتطلب خبرات مثل جرائم الاختلاس, الاوراق المالية, الملكية الفكرية ومنع الاتجار بالبشر. واستحدث أيضا منصب معاون المدعي العام أمام محاكم الصلح والبلديات. وبصدور قانون إدارة قضايا الدولة, تم تصنيف 22 قاضيا, بمن فيهم المحامي العام المدني ومساعدوه لتمثيل الخزينة في قضايا المطالبات المالية من الحكومة أو عليها.
تقول وزارة العدل إنها تنوي مراجعة أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية لسنة 1961 خلال الشهور الاربعة المقبلة من أجل تسريع فصل الدعاوى الجزائية من دون الاخلال بمبادئ المحاكمة العادلة, سيما وأن هذا القانون هو المعيار الاساسي لمدى التزام الدولة بحقوق الانسان. وثمة خطط لتوسيع إلزامية توكيل المحامين في جميع القضايا الجنائية, والتي تنحصر حاليا بالجرائم التي قد تصل عقوبتها للإعدام أو المؤبد.
إلى ذلك هناك توجه لاتخاذ إجراءات لتنفيذ القضايا الجزائية المعلقة التي تزيد على ,300.000 واستحداث منصب قاضي تنفيذ عقوبة, ثم التدرج في إدخال عقوبات بديلة كالخدمة المجتمعية, وإطلاق السجل العدلي الوطني خلال شهر.
بين مرافعة الحكومة واحتجاج القضاة مسافة كبيرة لا بد من تجسيرها. في الخلفية فجوة ثقة باتت معها الانطباعات في أحيان كثيرة أقوى من الحقيقة. المطلوب من الاستاذ الوزني التحرك في حال شعر أن مخاوف قضاته قد تكون مشروعة والطلب من الحكومة تصويب الامور, فالتغيير من سنة الحياة, لكن المشكلة الاكبر تأتي من السلطة التنفيذية التي طبخت وتطبخ معظم قوانينها المؤقتة بنفسها لنفسها من دون حوار مع الشركاء, يترافق ذلك مع عجز الاعلام المرعوب عن ممارسة دوره الرقابي بعيدا عن تجميل الواقع خوفا من التدخلات الرسمية المستمرة.
ولا ضير لو بادر وزير العدل لتوضيح الصورة سعيا لكسب الرأي العام في معركة تطوير القضاء التي تظل شأنا وطنيا, وطمأنة القضاة بأن الطرفين ليسا على جبهتين متقابلتين, بل يتكاملان لمصلحة المواطن.
حالنا في الاردن هذه الايام يذكر بأقوال الرئيس الامريكي السابق جورج بوش خلال حملته التي كان يعتقد أنها ستصلح العالم: إما مع محور الخير أو محور الشر?.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
العرب اليوم