من عجيب أمر البعوض، أنه يمتلك جهازاً حساساً لتحليل الدم، فهو يحبذ ويعشق مص الدم من الفصيلة (o+)، بجانب امتلاكه جهازاً متقدماً لتمييع الدم في جسد الضحية؛ ليسهل إمتصاصه بخرطومه المشابه لخرطوم الفيل، ناهيك عن جهاز التخدير الموضعي، الذي يجعله يحط ضيفا ثقيلا على جلودنا، دون أن نشعر بأنه يمتص دمنا ويوغل فيه.
وقريباً من مزايا وخصائص البعوض، والتي تجعل منه كائناً شرساً بامتياز، فقد أوقع السلطان عبد المجيد العثماني، عقوبة قاسية ولائقة، بوزير ماليته وأمين خزانته، بعد أن ثبت تورطه بالنهب والاختلاس، والرتع في الملذات والمسرات والنساء!، والإسراف في البذخ الفاحش!.
العقوبة النادرة الذكية، تقضي بأن يُحلق رأس الوزير ويطلى بالعسل، ثم يغطَّس جسده بمستنقع آسن حتى ترقوته، ليبدأ باستقبال أسراب البعوض الشرس، وأمر السلطان جندياً أميناً، ليبقى إلى جانب الوزير المعاقب، حتى يسلم روحه، فما من شك بأن البعوض لن يبقي به قطرة دم قبل طلوع الفجر!.
في الصباح، وعلى غير المتوقع والمرجو، لم يمت الوزير المختلس، فاستغرب السلطان واستهجن، وطلب من الجندي أن يصدقه القول، ويخبره بالذي جرى بكل أمانة وصدق.
قال الجندي: يا مولاي، إنه عندما حلَّ الليل، هجمت أسراب البعوض، وغطت كامل رأس ووجه الوزير، وشكلت ما يشبه القناع الأسود، وكنت أحسّ تلويه وتعصره تحت وطأة الألم والوجع، وكأنه ذيل سحلية مقطوع!!، ويا مولاي، قد أخذتني في لحظة عابرة، شفقة عارمة على الوزير، فهممت أن ألوّح بمنديلي، كي أطرد أسراب البعوض عن وجهه ورأسه، للحظة على الأقل، كي يخف ألمه، فما كان منه، إلا أن أشار لي برأسه يمينه ويسره، بأن لا أفعل: ثم همس لي: إنه شبعان، وسينام، دعه وشأنه أرجوك.
التقط السلطان عبد المجيد الفكرة العظيمة، وأمر بأن يفك وثاق الوزير، وأن تعاد إليه كل امتيازاته، وأن يعود إلى سابق عمله، وزيراً للخزانة، وكأن شيئاً لم يكن.
عندما عاتب أحد المقربين الحكماء السلطان على إعادته للوزير المختلس لمركزه رغم خيانته، حكى السلطان له القصة كاملة، وقال: تصوّر لو أن الجندي لوح بمنديله وطرد البعوض الشبعان عن رأس ووجه الوزير، فحتماً كانت ستحل مكانها أسراب أخرى جائعة، وهكذا، ماذا ستكون النتيجة؟!، حتماً كان سيموت الوزير، ولن يبقى به نقطة دم، في تلك الليلة.
الكثير من طويلي النظر وبعيدي الأفق في بلادنا العربية، سيتمنون بقلب خالص وصادق، أن يبقى المسؤولون ملتصقين في مناصبهم وكراسيهم حتى مماتهم، فهم وعلاوة على امتلاكهم أجهزة لشفط كل فصائل الدم، ومعدات تهرس اللحم والعظم، بدون الحاجة للتخدير، فهم قد يشبعون يوماً ما، وربما سينامون متخمين وبهذا لن تأتينا أسراب أخرى من البعوض الشره.