ذات يوم وفي مكتب رئيس وزراء سابق، وكنت أتحدث مع الرئيس حول تخفيضات جمركية مقبلة على السيارات، وبعد نقاش مطول، حول الغاية من التغيرات المقبلة، التي ستؤدي لخفض اسعار السيارات، سكت لحظات، وتأمل أحوال الرعية، والبلاد والعباد، قبل ان يعود للكلام.
قال لي الرئيس يومها، بعد سكوته المفاجئ، انه سيأتي يوم سترى امام كل بيت اردني، سيارتين وثلاث سيارات، كملكية داخل العائلة، ثم سيأتي يوم، لن يستطيع تحريك سيارة واحدة من اصل ثلاث سيارات سوى ذلك البطل ابن البطل، دلالة على صعوبة ذلك بسبب الكلف المختلفة.
لم أفهم سبب توقعاته الصادمة يومها، فالوقود لم يكن مرتفعا، لا محليا، ولا عالميا، ولا ضرائب مفروضة عليه في الأردن، وتوقعاته كانت غريبة، لكن ثبتت بعد كل هذه السنين، وهذا يؤشر إلى إما ان الرجل على بصيرة، او اطلاع على تغيرات مقبلة على الطريق على المستوى العالمي والمحلي.
إذا ذهبت اليوم الى شارع فرعي، في حي صغير، سترى عشرات السيارات امام البيوت، يمينا ويساراً، واسعار السيارات متفاوتة ورخيصة، واغلبها قد لا يكون مقبولا اصلا في دول ثانية، بعد ان اصبحنا سوقا، للسيارات العادية، التي لا تباع في بلادها بحالتها هذه الا بمئات الدولارات.
تحققت توقعات الرئيس، اذ ان سعر النفط يرتفع، والحكومات لدينا فرضت ضرائب على الوقود، ضعف قيمة الوقود ذاته، واكثر، وبات كل اردني يجاهد من اجل تشغيل سيارته، ويقتطع المال عن اولاده من اجل البنزين، وهذه الحالة امتدت الى ما هو اخطر، اي كلف الطاقة والوقود في النقل، والزراعة والصناعة والاستيراد وكل شيء، بما يعني ان كل شيء يرتفع سعره، وكل مشروع قد يفشل بسبب كلفة الطاقة، التي لا تدع لك ربحاً، ولا تجعلك قادرا على المنافسة.
مناسبة هذا الكلام، التوقعات برفع اسعار الوقود مجددا، مطلع الشهر المقبل، حيث التوقعات بأن تصل الارتفاعات الى نسب ليست صغيرة على البنزين والسولار وغير ذلك، بسبب ارتفاع السعر العالمي، ولو حسب كل فرد فينا كلف الطاقة السنوية، من بنزين وسولار وتدفئة وفواتير كهرباء، ثم كلف الطاقة على منتجات النقل والزراعة والصناعة ومستورداته، بما ينعكس على المستهلك لاكتشف كل واحد فينا ان كلف الطاقة، باتت تؤذي كل الأردنيين.
لقد طولبت الحكومات، دوما، بإعادة النظر في الضرائب المفروضة على الوقود، لكن لا احد يستجيب، اذ في الأردن يرفعون فقط، لكنهم يصابون بالصمم اذا طالبهم احد بإلغاء ضريبة، او حتى خفضها، وهذه حكومات بلا قلب، او ضمير، لانه لا يهمهم حتى حالة الفقراء خلال الشتاء مثلا، وكيف يؤمنون الدفء بهذه الاسعار المرتفعة، وتخيلوا رعاكم الله، انه توجد بيننا عائلات لا تجد كلفة التدفئة في الشتاء، لكننا ننام ونحن نتفرج على من حولنا، وكأن الامر لا يخصنا.
كل سيارة في الشارع، هي موظف حكومي برتبة جابي ضرائب، فلماذا تطرق الحكومات باب بيتك، اذا كان ممكن تحويلك شخصيا الى دافع ضرائب عبر كل حركة مباركة تتحركها بسيارتك، خصوصا، حين لا تدمج مشاويرك في مشوار واحد، وتتحرك كلما خطر على بالك، الى حيث تريد؟
ذات مرة قال مدير امن عام في اجتماع لثلة من الصحفيين، ان 90 بالمائة من مستخدمي السيارات هم فرد واحد، بمعنى ان الزوج يخرج بسيارته، والزوجة بسيارتها، والابن بسيارته، مثلا، والمواطن هنا شرب المقلب، ولا يستطيع تغيير سلوكياته او دمج مشاويره، والحكومة شربت من جانبها حليب السباع، وتطالب بمزيد من المال، والانسان الأردني عالق في المنتصف، اذ من حقه ان يمتلك سيارة، لا يدفع ثمنها مرتين، مرة عند الشراء، ومرة بسبب ضرائب البنزين التي لو جمعها، لاكتشف المرء انه دفع ثمنها مرة ثانية للخزينة، بعد مالكها الاصلي.
توقعات الرئيس يومها كانت صادمة، لكنها تحققت هذه الايام، ولم تعد صادمة، وكثرة لا تستطيع تحريك السيارة الا بشق الانفس، وعلى حساب رغيف ودواء الابناء والبنات.
(الغد)