امتلأ المكان برجال الأمن، وغصت بهم جنبات مستشفى الجامعة الأردنية الذي اكتسى بلون الفوتيك، حتى ليحسبه الناظر وحدة أمنية توشك على تنفيذ عملية تُحشد من أجلها الحشود..
ذات المشهد تكرر في مستشفى الملكة رانيا في وادي موسى، وقبل ذلك في مستشفى الكرك، ومستشفى معان، ومستشفى الملك عبدالله المؤسس في إربد، في كل هذه المواقف وغيرها كان رجال الأمن يجتمعون لتلبية نداء تبرع بالدم لطفل أو لشاب أو لامرأة أعياهم المرض.
حملات تبرع بالدم تواصلت من مديرية الأمن العام وفي كافة المحافظات حملت معاني سامية لا يوحي بها سوى الدم الواحد الذي يجري في الشرايين.
أعمال إنسانية أخرى تواصلت من رجال الأمن بدلالات لا تقل شأناً عن التبرع بالدم مثل مساعدة سيدة للوصول إلى المستشفى لتلقي العلاج، أو إنقاذ طفل تركه والده وحيداً في سيارة مغلقة، أو مساعدة مسافر تقطعت به السبل، وغيرها من الأفعال التي صارت سمة عامة لدى رجال الأمن.
إذاً، هي ثقافة جديدة نراها ماثلة أمامنا اليوم بعد الدمج، فالأمن لم يعود منوطاً به فقط تنفيذ حملات أمنية قوية مثل الحملة المدوية التي قطعت دابر فارضي الآتاوات ومروجي المخدرات، بل رافق هذه الحملات أيضاً حملات مجتمعية لا تكاد تتوقف، يشارك بها المواطن مع رجل الأمن جنباً إلى جنب، مثل حملة "معاً نصل آمنين"، والحملة البيئية المجتمعية "بيئتنا .. رئتنا"، وهذه الحملة الأخيرة بالذات وجد بها عمال الوطن متنفساً، ونصيباً كبيراً من التقدير في مديرية الأمن العام التي أطلقت إذاعتها مبادرة للتخفيف عنهم وإراحتهم خلال الظروف الجوية الصعبة، لا بل رأينا أن مدير الأمن العام بنفسه وضع على صفحته الشخصية مقطعاً مصوراً لعامل وطن يشكي سلوكيات خاطئة أتعبته، فتفاعل عشرات الآلاف على صفحة الجنرال الحواتمة مؤيدين ما ذهب إليه المقطع.
اللواء الركن حسين الحواتمة، الذي ارتسمت خلفيته العسكرية وشخصيته القيادية في معسكرات القوات الخاصة الأردنية بين العالوك ومعسكرات الزرقاء، استطاع وبوقت قصير أن يقود جهداً أمنياً ذكياً يفتح أبواباً جديدة لممارسة الأمن في الميدان، كما فتح أبواباً أوسع لدراسة الأمن بمفاهيم حديثة تجلت عبر "قواعد اشتباك" جديدة للتعامل مع المواطنين تبدأ بالتواصل وتمر من خلال المبادئ والقيم والعادات الأردنية المجبولة على النخوة، وتنتهي بالثقة المتبادلة.
ولعل التنشئة الاجتماعية والعسكرية التي عاشها الحواتمة في بيت عسكري متقاعد من مصابي معارك القدس، وتأثره بوالده الذي عرف عنه عشائرياً إصلاحه لذات البين وحقنه للدماء، أكبر الأثر في صقل شخصيته القيادية القريبة للناس، ولا زلنا نذكر حادثة المرأة العراقية التي ناشدت واستغاثت لدفن والدتها، فلبى رجال الدرك استغاثتها بعد أن أوعز اللواء حسين الحواتمة بإكرام دفنها والصلاة عليها وأخذ عزائها، فكان موقفاً أردنياً من النخوة ارتدت أصداءه من العراق قبل أن تطوف دول العرب والمهجر، وتعود باحترام تعودنا على مثله للأردن بقيادته الهاشمية الحكيمة.
أنسنة الأمن، والاشتباك الإيجابي مع المجتمع، هي ممارسات أمنية فضلى، أصبحت جزءاً من واجبات مديرية الأمن العام، ففي الأمن العام الجديد، لم تعد الدوريات الخارجية بين المدن مجرد نقاط أمنية، بل محطات متكاملة تقدم واجباً أمنيا إنسانياً، وتضم سيارة إسعاف، وعيادة تقديم الخدمات الطبية الأولية، وتقدم المساعدة للمسافرين عبر الطرق.
ومن جهة اخرى، فهو تواصل إنساني لا يقل عنه أهمية بعض القرارات التي اتخذتها مديرية الأمن العام، كان أولها إيعاز الجنرال الحواتمة عند استلامه لقيادة الجهاز بمنع مخالفات السير الغيابية المتعلقة باستخدام الهاتف، واستبدال مثل هذه المخالفات بحملات توعوية ضخمة لتعزيز ثقافة مرورية تحد من استخدام الهاتف أثناء القيادة، وغير ذلك من القرارات الداخلية التي تخص منتسبي مديرية الأمن العام من العاملين والمتقاعدين وكان لها أثر كبير في رفع الروح المعنوية لديهم على حد سواء، بعد أن لامست همومهم وحققت تطلعاتهم.
الاشتباك الأمني المجتمعي والتفاعل الإنساني، في ملامسة هموم واحتياجات المجتمع، ظهرت آثاره أيضا بالانفتاح الإعلامي لمديرية الأمن العام التي خلقت فضاء تفاعلياً من خلال أرقام استجابة فاعلة على مدار الساعة، وصفحات وتطبيقات يتابعها الملايين، والجنرال الحواتمة كان أول من أطلق رقماً خاصاً غلى تطبيق الواتس آب يضمن السرية والمتابعة منه شخصياً لما يرد من شكاوي ومشاهدات قد يخشى في كثير من الأحيان التبليغ عنها.
وفي المجمل نجد أنفسنا نتتبع سلسلة متماسكة من الأعمال الإنسانية، لم تأتي صدفة أو محض "فزعة"، بل هي فن أردني خالص، وموروث أصيل ظهر بوضوح مؤخراً في مديرية الأمن العام التي سعت لممارسته وترسيخه بصورة سلسلة، وبأثر قوي يترك انطباعات إيجابية نطرب لمثلها كأردنيين، وفيها من القوة ما يفوق القوة التقليدية الخشنة.
كل هذا وأكثر هو حصيلة وتطوير أمني وتحديث، لم يهمل القيم والعادات الأردنية الراسخة، بل جاء من صلبها وتوافق معها، لتثبت مديرية الأمن العام بتجربتها الرائدة، أن ثقافتنا الأردنية هي ثقافة صالحة لكل زمان ومكان، كالذهب يلمع ولو بعد حين، وذلك هو معدن الأردنيين الأصيل.