من أثينا إلى سهل البقعة: ولا بد لليل أن ينجلي
م. أشرف غسان مقطش
17-10-2021 02:26 PM
في الأربعينيات من القرن المنصرم بحسب التقويم الروائي لرواية (وجه الزمان)، "كان التاجر عليان معروفا بين البدو والفلاحين في القرى المجاورة لمدينة السلط، ومن خلال صكوكه، أصبح رجلا ميسورا، حيث تتأثر الزراعة بكمية الأمطار، وتسمح له سنوات القحط بتأجيل دينه سنة أخرى مقابل مضاعفة قيمتة [خطأ مطبعي على الأرجح، والصواب: قيمته] وزيادة عدد الدونمات التي تصبح رهنا لهذا القرض..."(1) وبهذه الطريقة استطاع المرابي (عليان) أن يستصدر "أمرأ من الحكومة" بالحجز على أرض أولاد (فاطمة).(2) فقامت القيامة وما قعدت في سهل البقعة، حيث "اتخذ ضيف الله [أحد أبناء (فاطمة)] موقعا له في شمالي البيدر[الذي استحوذ عليه (عليان)]، وفهد في جنوبه، ثم أشعلا النار في هشيم السنابل الجافة قبل أن يعودا إلى مكانهما خلف الصخور المحيطة بالمكان .. سرت النار في البداية متباطئة مترددة، ثم اتسع لهيبها، مزمجرا، يتطاير شرارها هنا وهناك، مقتحما عتمة الصباح..."(3)
يمكن إحالة ما حدث في إحدى "القرى المجاورة لمدينة السلط" في إطار الزمن الروائي على أنها ثورة البروليتاريا على البرجوازية في المظهر الإقتصادي، وعلى أنها ثورة المظلوم على الظالم في المظهر الأخلاقي. ورغم أن شرار هذه الثورة ما زال يتطاير "هنا وهناك، مقتحما عتمة الصباح"، إلا أن المرابي (عليان) لم يكتف بالحجز على أراضي أولاد (فاطمة) بل ذهب به (الجشع/الطموح) إلى أن يتقدم "بصكوكه إلى دائرة الأراضي، لنقل ملكية [بقية] الأراضي المرهونة إليه [والعائدة لأهل السهل]... ويوما بعد آخر، تحول الحريق إلى قضية .. قضية الربا المستفحلة في البلاد .. تنادى أصحاب الضمائر لمواجهتها والحد من شرورها وأخطارها.. فتشكل رأي عام يطالب الحكومة بالتصدي للمشكلة. وهكذا بينما كان عليان يستعد للوليمة الكبرى، فوجيء بقرار حكومي يلغي أي حق للمرابي في الإستيلاء على الأرض مقابل صكوك الدين، غير أن القرار لم يحمل أثرا رجعيا ..."(4)
وفي غابر الأزمان وسالف العصور، رهن الآلاف من فلاحي أثينا أراضيهم للأغنياء، وشاءت الأقدار حينها أن تبخل السماء عليهم بالماء مما تسبب في إنخفاض إنتاجية أراضيهم المرهونة فعجزوا عن فك الرهن وسداد الدين؛ فما لبث الأثرياء أن حجزوا على تلك الأراضي؛ مما أدى إلى نشوء نزاع طبقي بين البروليتاريين والبرجوزايين تبدت مظاهره في إضطرابات محلية عصفت بأثينا، وذلك قبل نحو ألفين وثمانمائة عام. وعلى إثر هذا النزاع الطبقي وما نجم عنه من تداعيات واستحقاقات، صدر في ذلك الحين قانون أتيكا أو ما يسمى في الأدبيات الفلسفية بتشريعات سولون. وسولون هذا هو أحد «الحكماء السبعة» الإغريقيين القدماء.(5) وكان أبرز ما نصت عليه تلكم التشريعات: إلغاء الديون وشطب الرهون، والحد من الملكية الفردية للأراضي، وتمليك الفلاحين عن طريق توزيع الأراضي عليهم(6) على غرار ما شهدته مصر عبد الناصر عقب أحداث الثالث والعشرين من تموز عام (1952) م.
إن العبر البليغة التي يمكن أن نستقيها من هذه المقاربة التاريخية-الروائية أن الإنسان هو الإنسان على اختلاف الزمان والمكان، وأن النزاع الطبقي بين البروليتاريا والبرجوازية لا يقتصر على مجتمع دون آخر، وإن تباينت تبدياته من اضطرابات في اثينا في سياقها التاريخي إلى حريق في سهل البقعة في نسقه الروائي؛ فإنه قائم قادم لا محالة إذا ما وصل الحال إلى نقطة اللاعودة. وأن الثورة؛ سواء كانت فوضوية كما في اضطرابات أثينا أم كانت منظمة كما في حريق سهل البقعة، وإن بدت تسري "في البداية متباطئة مترددة" إلا أن "لهيبها" سرعان ما سيتسع "مزمجرا" كرد فعل نهائي حتمي على استفحال الطغيان واستشراء الفساد إن لم تتحقق العدالة على أيدي قوانين وتشريعات تنزع فتيل برميل البارود الجاثم عليه طرفا النزاع.
ملاحظات:
1) الكاتب يعتمد صحة المعلومات التاريخية الواردة في المقال حتى يرد ما يختلف عنها في أي مصدر و/أو مرجع آخر غير الإنترنت.
2) ما بين العلامتين [...] إضافة من الكاتب على النصوص المُقْتَبَسَة لغرض التوضيح و/أو التصويب.
هوامش المقال:
(1) رواية (وجه الزمان) لمؤلفها طاهر خلف العدوان، أمانة عمان الكبرى، الطبعة الثانية (2002)، ص(10)
(2) المصدر السابق، ص(167)
(3) المصدر السابق، ص(245)
(4) المصدر السابق ، ص(248)
(5) كتاب (الأمير، تراث الفكر السياسي قبل الأمير وبعده) لمؤلفه نيقولو مكيافلّي، تعليق: بنيتو موسوليني، مقدمة: كريستيان غاوس، ترجمة: خيري حماد، تعقيب: د.فاروق سعد، الطبعة الأولى (2008)، الأهلية للنشر والتوزيع، ص(165)، (166)
(6) المصدر السابق، ص(166)