مسار بني أمية في وادي البطم
عبدالرحيم العرجان
16-10-2021 12:19 PM
ولمن أراد أن يعرف خلوة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك عليه أن يزور وادي البطم، الذي يقع شمالي قصره نقطة الربط بين قصوره الصحراوية وطريق الجزيرة ودمشق وبيت المقدس.
وصلنا قصر عمرة مع الغروب لنبدأ مسارنا الليلي بالشراكة مع مجموعة عشاق سيارات الدفع الرباعي، على أن يكون كلاً منا له طريقهُ وأن نلتقي في نقاط استراحة الشاي والتخييم الرئيسية بقلب وادي البطم.
فما أن حل الليل حتى كنا نسير بقلب الوادي المنخفض عن كتفيه قليلاً لمجرى يوماً دائم الجريان، إلا أن التغيّر المناخيّ والتصحر حال دون بقاء هذا الخير إلا ما تبقى من غدران وقيعان، قد تبقى فيها المياه لأواخر الصيف، مقصداً لرعاة الماشية والإبل بعد أن كان من جنان البادية، وفيه من الغزلان والكواسر ما وُثّق برسومات قصر الخليفة.
مئات من أشجار البطم الأطلسي المعمر التي استمد المكان اسمه منها، أما الاحصائيات فتبين أن هناك 1114 منها حولنا ويتناقص يوماً بعد يوم بسب المقالع والتحطيب الجائر واستحالة إكثارها لتغير طبيعة المناخ، إلى جانب الغضا والرتم، هناك نباتات البادية المعروفة حول مواطن المياه ومجاريها.
ومع غياب القمر طُرزت السماء بكواكبَ وشواهد لا تظهر لأهل المدينة إلا من غاب عن أضوائها بجمال قل نظيره وقد يكون هذا سبباً ليستلهم المعماري قبةٍ سماوية التصميم لتزيّن الحمام الحار بالقصر القريب وبكواكب قد أخدت مسمياتها من فصاحة العرب، فالمشتري اشترى الحسن والجمال لنفسه، والمريخ لأنه أخرخ أي مغبر، أما زحل لأنه يزحل ببطء بين النجوم، وغيرها من الدال على الطريق أو معلن بداية إحدى الفصول الاربعة.
وعلى درب الشبة المستوي والمغطى بشظايا الصوان غير الثابت كانت تشدنا حفر عميقة نبشها الباحثون عن الذهب، مسترشدين بعلامات بعيدة كل البعد عن التعليل العلمي من صدع بالصخر أو نقش تركه أحد المارة على طريق التجارة، متعجبّين من الاعتقاد الذي دمر الكثير من المواقع دون أدنى مسؤولية، ومن لحقهم أيضا من مستخرجي خامات أحجار البناء بكتلها البيضاوية الضخمة تاركين خرابهم دون تصويب بعد انتهاء غاياتهم، والذي يخشى على الوادي من تدمير بيئته جراء جشعهم وعملهم تحت الظلام.
كان ملتقانا الأول مع رفاقنا قرب برج المراقبة الغربي بعد إنجاز سبعة كيلو متر تبادلنا فيها ما معنا من مكسرات وفواكه مجففة وكوب شاي، قد غُليّ على جمر الغضا وعطرناه بشيح مررنا عليه، لنستكمل بعدها طريقنا عابرين عدد من الشعاب والقيعان التي جفت مع انتهاء الصيف وتشققت تربتها، وكان مؤشر تطبيق التموضع يشير أن مسارنا قد أنهى جزء ضمن محافظة الزرقاء لندخل حدود العاصمة بالجهة الموزاية لشمالي قصر الحرانة.
وبعد خمس ساعات ومع انتصاف الليل وصلنا نقطة التخيم الرئيسية والتقينا برفاقنا الي ذكرناهم في بداية المقال، وهم مجموعة الدفع الرباعي، وبعد مسير سبع عشرة كيلومتر بمستوى سهل، قمنا ببناء مخيمنا مع إختلاف أدواتنا فخيمنا صغيرة نسبيا بالمقارنة بخيمهم وكذلك متاعنا محدود وخفيف، وأدواتنا متعددة الاستخدام أما هم فمتاعهم محمول على عرباتهم، بنينا المخيم متشاركين الجهد والتنظيم معاكسين لاتجاه الريح الغربي، أشعلنا نارنا بحطب جلبوه معهم حتى لا نعتدي على خصوصية الطبيعة وحرمتها، والتي من الواجب علينا حمايتها وحماية أشجارها المعمرة، لتنتصب دلال القهوة العربية والحديث عن صانعها رسلان "الشائعة في بلاد الشام" وجودة حرفتها وكيف تورث، وطعمها الذي يختلف باختلاف سماكة المعدن وقوة النار ومدة الغليان.
وعطرنا الأجواء بلبان أخذناه من بين صدوع الشجر العتيق ليدور الحديث بمخيمنا المتواضع والذي قد يكون قد خيم مكانه الخليفة أو رجاله أو أحد أجدادنا بطريقه إلى بيت الله الحرام، ورسمة القصر تصف حالة متكئ على استبرق وطاووس يعلو خيمته غزلان وجاريته شهدة التي بناه لها تطربه بأعذب الألحان كما وصفها الأصفهاني وذكر ابنتها عاتكة في كتابه الأغاني 705 – 715 ميلادي.
ومع جناح الليل منا من نام أو تسامر حول النار حتى الخيوط الأولى للفجر موعد نهوضنا وخيوط الشمس تمتد الى ما لا نهاية فوق شظايا الصوان المتلألىء مع الندى، لنوضب متاعنا بعد افطارنا ونبدأ جولتنا الجديدة جميعا بالسيارات، مروراً بعدد من الكثبان والشعاب والبطم المعروف بعلاج لبانه للأمراض الجلدية وتعقيم الجروح وزيت ثماره التي تنضج بنهاية آب ومفعولها الكبير بشفاء أمراض الكبد، لنصل للسد الركامي وفيه شيء من الماء جلب إليه طيور الصباح ومن معالمه يبدوا أن مسطحه يغطي مساحة تصل لكيلو متر وقت الشتاء وقد نبت حوله صنوبريات النباتات الجديدة التي تأقلمت مع المكان ودخلت إليه، وحوله وجدنا آثار أقدام حيوانات الليل والماشية، وزائرٍ رسم قلبه الذي تشقق بجفاف الأرض بعد أن كان عذبا طرياً، لنصل لنقطة نهاية المسار عند بوابة القصر مثير الدهشة بطرازه المعماري وعقوده البرميلية محكمة الإغلاق وشبابيكه الصغيرة العالية، وموقع بنائه المستمد من فكرة الاظهار والإخفاء، حيث لا يظهر إلا عند الاقتراب منه، وبئره العميق وما فيه من جداريات مَثلت فترة حياة الخليفة جسد فيها الطبيعة والترف وإحداها سياسية ظهر بها القادة بلوحة مثلت الحكام الستة، كسرى ملك الفرس، قيصر ملك الروم، النجاشي ملك الحبشة، رودريق ملك القوط، واثنان غابت ملامحهم قد يكونا خاقان ملك الترك والآخر لأحد ملوك آسيا الوسطى، وقد حاول المستشرق ألويس موزيل 1909 نزعها عن الجدار لأخذها لبلاده، إلا أن أمره قد كُشف وحال دون تحقيق مبتغاه لتبقى بالقصر ذخرا وإرثًا إنسانيا حمته اليونسكو وأدرجته على لائحة التراث العالمي 1985، أما جيرتروود بيل 1914 الملقبة بملكة الصحراء فخيمت بالمكان ثلاثة ايام ووصفته "كان غروب الشمس رائعًا، أسرني الجو الجميل المنعش، ومنظر السهوب والتلال الصغيرة".