ذرف دموعه وهو عند زاوية الحي ، بعد ان تم رميه في الظلام ، في حاوية قديمة ، ولولا أنين الرجل ، وصوت البكاء ، لما تنّبه له اهل الحي.
كان ثلاثة من اولاده قد حملوه وهو في التسعين من عمره ، من بيتهم ، الى اقرب حاوية ، والقصة حقيقية. اولاده الثلاثة انفاسهم حامضة من شدة السكر ، لم تحن قلوبهم عليه ، وهو يبكي ، وقد حملوه ، وارتحلوا به الى زاوية الحي ، ورموه شر رمية ، في تلك الليلة.
اهل الحي تجمعوا في لحظات بعد ان علموا بقصة العجوز ، وحين حاولوا رفعه من داخل الحاوية ، كان مؤلما ان يطلب منهم ان يتركوه ، فهذا جزاء طبيعي ، وفقا لتعبيره ، وحين جاء السؤال ساخناً ، تبدى الجواب بقول العجوز انه قبل ستين عاما حمل والده بذات الطريق ، وكان والده مريضا بحاجة الى رعاية لم يحتمل قرفها.
ارتجف واعترف بأنه ذهب بوالده يومها الى زاوية القرية المظلمة وكانت الدنيا رمضان ، وهو لا يصوم بل يتعاطى المشروب ، ايضا ، في عز الصيام ، ورمى والده ورماه عند مزبلة القرية ، تاركا اياه ليموت ، دون ان يرف له جفن ، بل انكر في اليوم التالي انه رمى والده ، هذه الرمية ، وادعى انه خرج ليمشي ومات في مكانه.
صعق اهل الحي من الرواية المفزعة ، والعجوز يبكي ويختنق ، والقمر شاهد على القصة ، وأقر بسر معاناته ، ويقول انه يدفع ثمن عقوقه لوالده ، وانه فعل ذات الفعلة مع والده ، مع فرق التوقيت ، اي ان القصة الاولى حدثت في رمضان ، لكنها ما غابت ، بل عادت مضاعفة ، ليعيد التاريخ نفسه ، وليحمله اولاده "السكارى" ويرموه ذات الرمية.
تسمع اليوم كل ابن يطيل لسانه على والده او والدته ، يتقعر وجهه ، في وجه والده او والدته ، يتلفظ بأسوأ الالفاظ ، يبخل على والده او والدته ، يخاف من زوجته ، ويعبد الدينار ، ربما ، ينتقد والده ، يتفلسف بشرح اخطاء والده ، وانه لو كان مكانه لفعل كذا وكذا ، ولا يعرف من يطيل اللسان على "السيد" الذي رباه ، انه يهوي الى قاع الدنيا والاخرة ، وان كشف الحساب لا يتأخر.
في التراث ان رجلا سكيراً عربيداً زانياً دخل الجنة ، لانه كان حين يعود الى غرفته التي فيها والده ووالدته وزوجته واولاده ، وهو في اسوأ حالة من شدة السكر ، يذهب لحلب الشاة ، ويدخل بالحليب الى الغرفة ويوقظ والديه من اجل ان يشربا حليباً طازجاً ، مع مطلع الفجر ، وحين يحاصره اولاده الصغار طلباً للحليب ، كان يرفض ان يمنحهم منه ، الا بعد ان يرتوي والده ووالدته ، والله عز وجل غفر له كل شيء ، لانه كان باراً بوالديه.
اذا ضاقت بك الدنيا فتذكر والدك ووالدتك ، وهل قصرت معهما ، راجع حسابك معهما مثلما تراجع كشف راتبك ، هل نفرت بهما بكلمة سوء ، هل قابلت احدهما بوجه عبوس ، هل اطلت اللسان عليهما ، هل نممت عليه او عليها مع زوجتك ، هل حرمته نعمة مما عندك ، هل اكلت شيئا ، لم يأكلا منه ، هل يحل لك اكل شيء لا يذوقونه ، هل زرتهما كل اسبوع او كل شهر ، بدلا من كل يوم ، هل اديت حق الله فيهما ، واذا ضاقت بك الدنيا فتذكر ان السر في الوالدين ، سر باهر ، وبيدهما ايضا المفتاح وكل المفاتيح.
قيل في المثل "لن اعيش في جلباب ابي" ، والقائل معذور ، لانه ولد عارياً ، ولم يحظ بتلك "الكسوة" من والده.
الدستور