"هندسة " الحياة السياسية الأردنية والنضوج الديمقراطي بالتقسيط
أحمد ذيبان
11-10-2021 12:11 AM
في تقييم مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، يجدر العودة الى المقدمات التي سبقت تشكيل اللجنة ، وجولات الحوار التي كان ينظمها ويديرها بعض الرموز الرسمية مع أشخاص يتم اختيارهم من مختلف المحافظات والقطاعات الاجتماعية والمهنية ، حيث كان القائمون على رعاية تلك الحوارات يركزون على نقطة محورية ،وهي ضرورة انتاج مواصفة اصلاح سياسي تناسب "الثقافة والتقاليد الأردنية"، وعليه ليس مصادفة أن يتكرر في توصيات ونتائج عمل لجنة التحديث مرات عديدة، الحديث عن "نموذج ديمقراطي أردني " ،كما ورد في الفقرة التي تقول " التدرج للوصول إلى النموذج الديمقراطي الأردني، للانتقال عبر مراحل زمنية في تطوير التشريعات والبنى المؤسسية والممارسات وصولا إلى النضوج الديمقراطي".
لاحظوا أن هذه الفقرة تفترض وجود "نموذج ديمقراطي أردني "، متدرج وصولا الى" النضوج" ،وكأننا نريد اختراع العجلة دون تحديد سقف واضح للوصول الى مرحلة النضوج، التي قد تستغرق عشرات السنين ، ومثل هذه الفرضية تعني التشكيك بقدرة الأردنيين على ممارسة الديمقراطية ،رغم أن هناك دول ربما يتفوق عليها الأردنيون ، من حيث مستوى التعليم والوعي السياسي ، وفي التجانس الديمغرافي والعرقي، ترسخت فيها العملية الديمقراطية ومبدأ تداول السلطة منذ فترة طويلة ، ولنأخذ مثلا " تايلند ، ماليزيا ،اندونيسيا ،الهند وباكستان "، ولا أريد المقارنة مع أميركا والدول الاوروبية.
تقرير اللجنة ينطوي على جوانب ايجابية بضمنها بنود تتعلق بتمكيين الشباب والمرأة سياسيا ، لكنه زاخر بالعبارات الانشائية البدهية ، التي هي جزء أساسي من عمل الحكومات ، وحسب رؤيتي للمخرجات والتوصيات فإن المحور الاساس فيها ،هو دفع الاحزاب أو "دفشها " لدخول مجلس النواب ، وإذا كان المواطن يدفع عشرات الضرائب والرسوم للحكومة لكي تقدم له خدمات أساسية ، فإن من حقه أن يكون شريكا في القرار من خلال آليات ديمقراطية وأهمها انتخاب ممثليه في البرلمان بحرية ونزاهة ، وهنا دخل عنصر جديد حسب مخرجات اللجنة ، وهو الحديث عن حكومات برلمانية من خلال الأحزاب السياسية ، التي ستمولها الحكومة من خلال الضرائب التي يدفعها المواطن ، ومقابل هذا التمويل من جيب المواطن ، فليس من مسؤولية الاحزاب تقديم خدمات مباشرة للمواطنين ، بل يقتصر دورها بتمثيلهم سياسيا ، وبالنسبة لبقية التوصيات فجاءت أشبه بـ"مكملات غذائية " التي يتناولها الرياضيون.
لكنني لم أفهم المغزى من التوصية التي تدعو "لتسهيل عملية استقطاب التمويل للمؤسسات التي تعنى بقطاع الشباب، وتشبيك هذه المؤسسات مع الممولين"، خاصة ان الجهات الممولة هي اجنبية ولا تقدم دعم على شكل صدقات خيرية.
رسالة الملك الى رئيس لجنة تحديث المنظومة السياسية ،حصرت مهمتها بوضع مشروعي قانونين جديدين للانتخاب والأحزاب السياسية، والنظر بالتعديلات الدستورية المتصلة حكما بالقانونين وآليات العمل النيابي، وتقديم التوصيات المتعلقة بتطوير التشريعات الناظمة للادارة المحلية، وتوسيع قاعدة المشاركة في صنع القرار، وتهيئة البيئة التشريعية والسياسية الضامنة لدور الشباب والمرأة في الحياة العامة.
وبخصوص توصيات اللجنة المتعلقة بالإدارة المحلية واستحداث مجالس منتخبة للأقاليم ، أعتقد أنه لا حاجة لمثل هذه المجالس وثبت خلال تجربة السنوات الاربع الماضية فشل التجربة ، وأنها مجرد حلقة بيروقراطية لا لزوم لها ، فالأردن ليس بحجم الدول الكبرى مثل أميركا وروسيا والصين والهند ، والخدمات الاساسية والمشروعات التنموية هي من صلب عمل الحكومات والوزارات المعنية ، وفيما يتعلق بالخدمات والمشروعات التنموية المحلية ، فهي مسؤولية المجالس البلدية المنتخبة ، وعندما يحدث اصلاح سياسي حقيقي فإن أعضاء مجلس النواب يتفرغون لواجباتهم الأساسية ، في التشريع والرقابة على أداء الحكومات بكافة أجهزتها .
أما التوصيات فهي عبارة عن حشو انشائي" تجميلي" لا يحمل جديدا ، وهي من بدهيات عمل الحكومات والمؤسسات الرسمية ،وسأضع في نهاية هذا التحليل بعض الفقرات من توصيات اللجنة التي تؤكد ما استنتجته . مثل التوصيات المتعلقة بتمكين الشباب والمرأة، وعلي سبيل المثال التوصية بـ"ضمان تحقيق إلزامية التعليم الأساسي ، والتركيز على جودة التعليم ونوعيته، وزيادة أعداد المدارس المخصصة للتعليم التقني والمهني".
ولفتني في التوصية المتعلقة بالحريات العامة ، ان اللجنة لم تتطرق الى واقع حرية الاعلام الاردني بمختلف قطاعاته "الصحف الورقية والمحطات التلفزيونية والإذاعية والمواقع الالكترونية" وأن غالبية المواطنين يذهبون الى وسائل التواصل الاجتماعي بسبب ما توفره من سقف مرتفع للتعبير والنقد ، إذ ثمة ضرورة ل"تحرير " الاعلام ،من هيمنة السلطات الرسمية التي "تطرب" للتصفيق والمدح وتكافؤ من يسلكون هذا الطريق ، وتضيق ذرعا بالنقد وهذه قضية أساسية في تطوير الاعلام ، واكتسابه ثقة الرأي العام لكي يقوم بدوره الحقيقي كسلطة رقابة على بقية السلطات ،واكتفت اللجنة بالتوصية بمراجعة التشريعات والسياسات والممارسات الناظمة للحريات العامة " كقانون الجرائم الإلكترونية، وقانون الاجتماعات العامة، وقانون العقوبات، وقانون ضمان حق الحصول على المعلومات، وقانون منع الجرائم".
تشير اللجنة في تقريرها إلى " أن الديمقراطية عملية تحول اجتماعي وثقافي في الأصل، تحتاج إلى تعلم وغرس ثقافي يتم بالممارسة ومن خلال مؤسسات التنشئة معا "، وهذا أمر لا يحمل جديدا ،ومن المهم التذكير أن الاردن يحتفل بمرور مئة عام على عمر الدولة، ورغم ذلك لا زالت عملية الاصلاح مجرد شعارات وتشكيل لجان حوار ، ومنذ بداية التسعينات شكلت العديد من لجان الحوار الوطني ، وخرجت بتوصيات وضعت في الارشيف.
في عام 1992 نشرت كتابا عنوانه" السلوك الديمقراطي في ضوء التجربة الاردنية" ولدت الفكرة بعد عودة الحياة النيابية وإجراء انتخابات برلمانية عام 1989، وكان جوهر الكتاب يدور حول فكرة أساسية وهي أن الديمقراطية سلوك تحتاج الى ممارسة عملية وتدريب كما يحدث في التدريب على السباحة، حيث لا يمكن ممارسة السباحة على السرير ، ولا بد من النزول الى الماء ، وهكذا هي الديمقراطية بحاجة الى عملية تراكمية من الممارسة ، وفي حينه أهديت المرحوم الدكتور جمال الشاعر،وهو سياسي عريق ،واعجب بالكتاب وأرسل كتاب الى الدكتور على محافظة وكان في حينه رئيسا لجامعة اليرموك، وأوصى في الرسالة بتدريس الكتاب في الجامعة ،لكن ذلك لم يحدث، وما ورد في تقرير اللجنة في الفقرة السابقة هو تأكيد المؤكد .
التدرج في"الدمقرطة" والنضوج !
لكن اللجنة ارتأت ان يتم "دمقرطة" المجتمع الاردني بالتقسيط ،على طريقة الري بالتنقيط ، أو على جرعات الى أن "ينضج" ، كما ورد بتجزئة "كوتا" الاحزاب من مقاعد مجلس النواب، لتبدأ المرحلة الأولى في المجلس القادم رقم عشرين ب " 41 "مقعدا من مجموع مقاعد المجلس ال "138" ، ثم ترتفع في المجلس الحادي والعشرين وفقًا معادلة جديدة لتوزيع مقاعد المجلس، بتخصيص ما لا يقلّ عن (50%) من المقاعد للأحزاب.
وفي المرحلة الثالثة تجرى انتخابات المجلس الثاني والعشرين وفقًا لمعادلة جديدة لتوزيع مقاعد المجلس، تقضي بزيادة المقاعد المخصَّصة للأحزاب والائتلافات الحزبية ،لتصل إلى ما لا يقل عن (65%) من مجموع عدد مقاعد المجلس النيابي ، وهي الفترة المفترضة ل"النضوج الديمقراطي" للمجتمع الاردني! حسب تقديرات اللجنة ، أي بعد ما يقارب 15 عاما إذا أكمل المجلس الحالي رقم 19 مدته الدستورية !
وبموازاة ذلك تضمن مشروع قانون الانتخاب المقترح، صيغة القوائم في الدائرة المحلية للتنافس على 97 مقعدا ، بحيث تضم القائمة عددا من المترشحين لا يزيد على عدد المقاعد المخصص للدائرة الانتخابية، ولا يقل عن مترشحين اثنين، مع وجود نسبة حسم (عتبة) مقدارها 7% من مجموع المقترعين على مستوى الدائرة الانتخابية. كما تمت زيادة المرأة بواقع مقعد لكل دائرة. وهذه الصيغة أيضا تناسب الواقع الاجتماعي والعشائري في الدوائر المحلية وامكانية اقامة تحالفات على مستوى المحافظات ، فضلا عن توفير فرصة لبعض الاحزاب وخاصة الجديدة للفوز بعدد من المقاعد.
وخلال هذه السنوات لا أحد يستطيع التنبؤ بماذا سيحدث من مفاجآت ، خاصة وأننا تعودنا على تغيير قوانين الانتخاب وتعديلها ، وعلى سبيل المثال قانون "الصوت الواحد"، الذي أقر عام 1993 وتسبب بشروخ اجتماعية وتهميش القوى السياسية الفاعلة ، تم تعديله مرات عديدة لكنه بقي يدور في نفس المدار الذي رسم له.
"هندسة "الحياة السياسية
ومن السهل على المراقب أن يستنتج من مخرجات اللجنة، الإصرار على"هندسة "الحياة السياسية ،تحت سقف منخفض وسرعة محددة، وقد كتبت في كتابي الذي صدر مؤخرا وعنوانه "الشبع من الحياة " فقرة بهذا الخصوص ، تقول "ان الحياة السياسية في الاردن تسير في مسرب واحد ، أشبه بشخص يقود سيارته في مسرب واحد بسرعة 50 كم في الساعة، وغير مسموح له بالالتفاف الى الاتجاه الاخر من الطريق ".
وكما أشرت سابقا فإن المحور الاساس في مخرجات اللجنة ، هو دفع الاحزاب أو" دفشها " لدخول مجلس النواب ، ولذلك تم تخفيض نسبة عتبة الفوز بالنسبة للأحزاب او التحالفات الحزبية الى 2.5 بالمئة، من عدد المشاركين بالتصويت على مستوى الدائرة الوطنية ، بهدف اتاحة فرصة لما تبقى من أحزاب مخضرمة قومية ويسارية ، للفوز ببعض المقاعد من كوتا ال "41" تعد على أصابع اليدين ، وعدد آخر لحزب جبهة العمل الاسلامي يتراوح بين" 8 و12" مقعدا الى 2.5 بالمئة من عدد المشاركين بالتصويت على مستوى الدائرة الوطنية، لكن غالبية مقاعد الكوتا ستكون من حصة الأحزاب الجديدة ،التي ستشكل من قبل مسؤولين سابقين وأصحاب نفوذ ومن يرفعون شعارات ليبرالية ، وقد بدأت العجلة تدور في هذا الاتجاه خلال الاسابيع الماضية.
وفي مجتمعنا الذي تعاني غالبية شرائحه من أزمات اقتصادية واجتماعية وارتفاع نسبة الفقر والبطالة فضلا عن الاعتزاز بانتماءات عشائرية، من الطبيعي أن تستقطب أحزاب أصحاب النفوذ والمسؤولين السابقين المرشحين للعودة الى المواقع الرسمية ، أعضاء ومناصرين ليس قناعة ببرامج بل على أمل الحصول على فرص عمل ومكاسب ، بمعنى أنه لن يحدث تغيير جوهري في النهج السياسي.
والمفارقة الغريبة التي وردت في التعديلات الدستورية التي تقترحها اللجنة، منع الجمع بين عضوية مجلسي الأعيان والنواب ومنصب الوزارة، فكيف يمكن الجمع بين الهدف الرئيسي من مخرجات اللجنة ، وهو الوصول الى حكومات برلمانية منتخبة من خلال الاحزاب، وبين منع أعضاء مجلسي النواب والاعيان من تولي مناصب وزارية أوتولي منصب رئيس وزراء ،ففي كل الدول الديمقراطية ، يتم تشكيل الحكومات من الحزب الفائز أو ائتلاف مجموعة أحزاب ، بمعنى أن الحكومة تتألف من النواب الذين يمثلون تلك الاحزب في البرلمان.
ويبقى سؤال مهم غابت الاجابة عنه في مخرجات اللجنة وبالذات التعديلات الدستورية المقترحة ،وهو أن الاصلاح السياسي الحقيقي يفترض أن يتضمن إيجاد صيغة لانتخاب نصف أعضاء مجلس الاعيان ، من قبل النخب الاجتماعية والسياسية في المحافظات ، كما يحدث في العديد من الدول ،التي يوجد فيها مجالس شيوخ، صحيح أن الرسالة الملكية حصرت مهمة اللجنة بوضع مشروعي قانونين جديدين للانتخاب والأحزاب السياسية، والنظر بالتعديلات الدستورية المتصلة حكما بالقانونين، لكن ليس هناك ما يمنع التوصية بما أشرت اليه ولو من قبيل التذكير.
ويبقى أن تحقيق أي حياة ديمقراطية يتطلب ، أن يكون الحكومة تتمتع بولاية عامة جدية، وهذا يتطلب وجود رئيس وزراء شجاع منتخب حسب الصيغة المقترحة للوصول الى حكومات برلمانية .