من وحي المئوية 35 الأصدقاء الأوفياء
د. جواد العناني
10-10-2021 12:12 AM
يَمُرُّ على الانسان في مسيرته الدنيوية أشخاص رائعون، تسعد لملقاهم، وتود لو أنك تبقى معهم لا تفارقهم. وفي كل مرحلة من مراحل المسيرة العُمْرية، يلاقي المرء أشخاصاً كهذا الانسان، الذي يترك بصماته إلى الأبد. وقد عرفت عدداً من هؤلاء سأسعى لاستعادة صورهم ومواقفهم في حياتي.
ومن أوائل هؤلاء، رئيس بلدية الخليل الأسبق المرحوم فهد داوود القواسمي. وقد عرفته طفلاً يكبرني بعام أو اثنين في مدينة القدس. وقد نُقلنا قسراً إلى بيت والده الحاج داوود (الملقب حينها بالعبيط) لقوة شكيمته وعناده في تنفيذ ما يراه صواباً. ولقد سكنوا في بيت من ثلاثة طوابق، الحاج داوود، وزوجته، وأولاده غازي وفايز وفهد، وابنته حياة. لقد أصبح فهد صديقي رغم أننا لم نتجاوز أيامها سن الخامسة في حالته والرابعة في حالتي.
وكم كنا نسعد عندما يُسمح لنا أن نذهب إلى قبة الصخرة والمسجد الأقصى داخل القدس الشريف، فنشتري الكعك بالسمسم، وفلافل القدس في باب العمود. وعندما ننتهي نذهب لنقفز على الدرجات المؤدية إلى قبة الصخرة، ويداعب وجوهنا وشعرنا الكثيف نسيم الأقصى الرطب المنعش. ثم بعدها نركض حتى نصل باب كنيسة القيامة. وندخل من بابها الصغير الذي كان يفتحه كل يوم رجل من عائلة جوده. ونحوس بين الشموع وروائح البخور، ونتمعن في الجدران والسقوف والقباب. ونعود بعد ذلك فرحين.
وعدت للتعرف عليه بعدما أُبعد عن بلدته الخليل من قوات الاحتلال الاسرائيلية، وانتهى به المطاف في عمّان. كنا نجلس نتحدث. وصرنا نلتقي مرتين كل شهر صباح الجمعة لتناول الفطور في منزلي. وعرَّفت أولادي عليه، فأحبوه كثيراً. وكان يحدثهم عن القدس وفلسطين والخليل. وعدت من سفرٍ يوم الثامن والعشرين من شهر كانون الأول عام 1984، لأبلغ أن يد الغدر قد امتدت إليه وأردته قتيلاً. وما أزال أذكر «أبا خالد»، هذا الشاب الذي ضاع دَمُه هدراً، وأحب الأردن، وآمن بالعلاقة التي لا تنفصم عُراها بين الضفتين.
أما الشخص الثاني فهو ابنة خالةٍ لي اسمها سارة عبدالقادر أبو يوسف، والتي تزوجت قبل أن تبلغ الرابعة عشرة من عمرها لجمالها. أما أنا فكنت أصغر منها بحوالي عشر سنوات. وقد بدأتُ دراستي الابتدائية في حلحول عام 1949.
ولقد كان الصف الأول (أ) وَ(ب) يقعان في غرفتين مستأجرتين من أسرة «أبو دنهش» في حلحول. وسَكَنت سارة في منزل ملاصق لدار «أبو دنهش». وعند فترة الغداء، كانت تدعوني إلى بيتها، وتعد لي رغيف طابون كبيراً، وتقلي لي ثلاث بيضات بلديات من دجاجاتها بالسمن البلدي، وتجلس ترقبني وأنا أتناول الطعام وهي تضحك فرحة مسرورة وتحثني قائلة «كُلْ.. كُلْ يا ابن خالتي، انت نحيف كثير».
ومضت سنون لم أرها بعد أن انتقلنا إلى عمان. وقيل لي إنها ولدت أول واحد من أبنائها على جانب الطريق حين جاءها المخاض فنزلت عن البغل الذي تركبه، وانجبت طفلها وحدها، ولفته بالغدفة التي كانت تلبسها على رأسها، وقطعت الحبل السري بحجر. ثم ركبت بغلها عائدة إلى بيتها. وكنت أتذكرها دائماً، واستفسر عنها. وفي عام 1969، دخلت إلى الضفة الغربية لأزور أيامها بنت خالٍ لي كنت قد قرأت الفاتحة مع خالي أبيها لتكون خطيبة لي. وجاءت ساره لزيارتي وعيناها الزرقاوان اللامعتان، وشعرها الأشقر كسبائك الذهب ما زالت على حالها كما عهدتها لولا خطوط الشيب التي غزت مفرقيها، والتجاعيد التي بدأت مثل «ثلم» الأرض بعد الحراثة تزين جبينها. وظلت تنظر إلي، ثم وشوشتني قائلة «دير بالك». ولم أفهم قصدها. وعدت إلى عمان ولم تتم خطبتي إلى بنت خالي، وماتت سارة بعد ذلك بأشهر من كثرة ما عانت في حياتها.
أما الشخص الثالث فقد قابلته في الصف السادس الابتدائي، واسمه عبدالمالك محمود العمري، والذي أصبح فيما بعد مهندس اتصالات يُشار له بالبنان. في رحاب الكلية كنت ألعب مع عدنان بشناق، والمرحوم معاذ ديرانيه، والمرحوم أحمد ماجد العدوان، وطاهر عصفور، والمرحوم زهير دحمان، وعبدالمنعم الخولي، وياسر الدجاني، وحاتم العشي، وزيد الكيلاني، وميسره الكيلاني. ومحمد أبو طه، وسفيان شاهين، وغيرهم. أما عبدالمالك فقد كان مشاكساً، ويبحث بالإبرة عن خناقة ليباطح أحداً.
وذات يوم، وأنا واقف على حافة حائط مطل على مجموعة صغيرة من شجر الورود، انطلق نحوي عبد المالك العمري، ودفعني فوقعت على الجانب الآخر وسط الورود الشائكة، وتألمت من أثر الوقعة وأشواك الورد كثيراً. ونهضت وعدت إليه لأعاركه، فإذا به يرفع يديه كما يرفعهما ملاكم، وينظر إلي محاولاً أن يكشر إلى أقصى ما يمكن للتكشير أن يكون. ولكن وسط العينين العابستين والجبين المقطب، وهيئة الجسد المستنفرة، رأيت في عينيه رجاء من يريد صديقاً. فقلت له «معلش.. ما صارش شيء» وتدخل الطلاب الآخرون وانفض كل إلى شأن آخر يلهيه.
وبعد انتهاء الدروس الساعة الثالثة والنصف وخمس دقائق، ضرب الجرس، وركضنا فرحين كل يريد العودة لمنزله. أما عبدالمالك فقد لحقني وقال «ممكن أمشي معك». فمشينا، وإذا به يسكن ليس بعيداً عن منزلنا. ومن يومها صرنا أعز صديقين. وقد كان دوماً نعم الأخ. وكم ذهبنا إلى السينما معاً حتى نرى فلانة في قسم العائلات، أو نلحق بنتاً على بعد مسافة مئة متر على الأقل أملاً أن تنظر إلينا. وصرنا نغزل قصص الغرام، وكأنها حصلت فعلاً، ولكن شيئاً لم يحصل.
وتفرقت بنا الدروب والأيام، وعمل هو في مؤسسة الاتصالات الأردنية لسنوات، ثم انتقل للعمل بالسعودية ردحاً من الزمن في المؤسسة السعودية مشرفاً على تمديد خطوط الهواتف السلكية. وعاد للأردن، وتزوج وأنجب أولاداً وبناتاً. ولكنه ما يزال كالنسمة، لا يفرض نفسه على أحد. وأكلمه فيفرح لمكالمتي، وإن لم أكلمه اكتفى بذلك.
أما الشخص الرابع فهو الدكتور زهير عبدالفتاح ملحس، الذي عرفته وجاهياً بعدما أصبح عضواً في المجلس الوطني الاستشاري عام 1978. ومن بعدها دخلنا معاً في وزارة المرحوم الشريف عبدالحميد شرف، وتوطدت صداقتنا. وكان يكره أنني أدخن فأوقفت التدخين بسببه لمدة ثلاث سنوات ولكنني عدت إليه، وكان دوماً يلاحقني لأتوقف، ونجح في ذلك عام 1994. واجتمعنا في حكومة دولة السيد مضر بدران هو وزير للصحة وأنا وزير للعمل.
وفي عام 1981، نشرت مجموعة قصصية لي باسم «ليلى بنت الأرض» واهديته نسخه منها، فما كان منه إلا أن هاتفني قائلاً «يا أخي سامحك الله هل تعلم أنني بدأت قراءة القصص الست في مجموعتك، ولم استطع أن أتوقف عن القراءة حتى انتهيت من قراءة الكتاب كله». وكال لي المديح حتى احمرت وجنتاي علماً أنني صدقت كلامه لأنه كان صريحاً لا يكذب.
وتعودت على أن أزوره صبيحة يوم الجمعة حين كان من هُواة الراديو (HAM). ونجلس بعدما نفطر حيث يبدأ يمارس هوايته. وذات يوم فوجئنا ونحن نبحث عن هاوٍ آخر نكلمه بصوت الراحل العظيم الملك الحسين رحمه الله. «صباح الخير أبو عمر». فتحادثا قليلاً، ثم قال د. زهير «يا سيدي معانا اليوم د. جواد العناني». فضحك جلالته وقال » ما شاء الله.. هذا اكتشاف. أبو أحمد من هواة الراديو؟» فضحكت وحييت سيدنا وقلت له «يا سيدي أنا ضيف عند أخي أبو عمر»، وتحدثنا فكانت تجربة جديدة في حياتي.
وبعد سنوات من لقاءات أبي عمر، ورفضه العودة للوزارة حين كُلفتُ باستمزاجه عام 1993 لأنه عمل وزيراً في حكومة دولة السيد زيد الرفاعي. وقال إنه يود العودة لممارسة مهنته.
هذا الانسان وطبيب القلب البارع، والذي أحدثت عودته بعد تخرجه مختصاً من مستشفى جامعة «نورث ويسترن» بمدينة شيكاغو، بقي يداوم في نفس العيادة، قرب طلعة الحايك عند بداية طلعة جبل عمان. وزرته مرات كثيرة. لأراه وحده في عيادته من أجل المرضى الذين آمنوا به، وأصروا على ألا يكون لهم طبيب سواه. وذات مرة زرته هناك، وقد بدا مهموماً، ولما ألححت في السؤال عليه اعترف لي أنه مريض بالسرطان، وأن وضعه صعب جداً. وقال لي لم أقل هذا الأمر لأحد غيرك. وآخر مرة زرته فيها، بدا ضعيفاً، ولكن عينيه ما تزالان تلمعان، وخصلات شعره البيضاء تكسبه هيبة واحتراماً. ومات بعدها الرجل وبكيت عليه.
ومن أعز الأصدقاء لي عدا عن دولة الدكتور عبدالسلام المجالي، وزملائي في البنك المركزي، وزملاء الكلية، شاب مهندس اسمه د. أسامه ماضي. وهو طالب نجيب من النوع الذي يغيظ، وتخرج مبدعاً من «امبريال كوليج» بجامعة لندن مهندساً متخصصاً في الهندسة الانشائية الهيكلية.
وأثناء دراسته للدكتوراه، كان المرحوم الدكتور الشيخ عبدالعزيز الخياط وزيراً للأوقاف، والذي تعهدت وزارته ببناء جامع الملك عبدالله بالعبدلي. وقد اكتشفوا أن قبة المسجد تزن أكثر من (1,300) طن، مما أخر تنفيذ المشروع حتى يجدوا حلاً لذلك. ودلهم أحدهم على الدكتور أسامة، فأرسلوا إليه المخططات ووجد لهم حلاً.
وجمعتني به الظروف، فصرنا صديقين، وأنشأنا معاً عدداً من المشروعات منها شركة تطوير العقارات، وجامعة العقبة للتكنولوجيا، وغيرهما. وفيه صفات تغيظني أحياناً مثل التأخر في المواعيد، والمناكفة حيث نختلف على معلومة فيفوز مرة وأربح أنا مرة. ويدخل في خصومة مع أخ مهندس لي حول عطاءات وتسويات. ولكنني تعودت أن آخذ أصدقائي على علاتهم «قلم قايم»، بدون تفاصيل أو الوقوف عند العيوب. وما يزال حتى الآن الأخ والصديق الذي أعلم أنه يقف إلى جانبي إن احتجته.
وأما الأخير فهو المرحوم الدكتور أحمد مفلح الحوراني، الرجل المدهش بكل معنى الكلمة. ولقد التقيته أول مرة عام 1975 لما عملت رئيساً لدائرة الأبحاث الاقتصادية بالبنك المركزي. وقد عمل معي في الدائرة بجد ونشاط. وأعد المسودة الأولى لتقرير البنك ذلك العام. وانتقل معي للعمل في الضمان الاجتماعي. وقد لاحظت أن اهتماماته التجارية كانت تطغى على طبيعته بسبب ميله للمخاطرة وحزمه عند اتخاذ القرار. ولم أر في حياتي شخصاً يتبع حدسه مثله.
ولكن يده كانت خضراء، وكلما يبدأ مشروعاً يحوله إلى ذهب. وقد أسسنا معاً كلية الأندلس للعلوم المصرفية والمالية، وفرعين لها: غرناطة في اربد، وقرطبة في الزرقاء. وكذلك ساهمنا معاً في مشروعات صغيرة أخرى. وكلها كانت ناجحة. ولقد تحول من رجل ينتظر راتبه على أحر من الجمر آخر الشهر إلى آخر يملك عشرات إن لم يكن مئات الملايين. وامتدت استثماراته إلى قطاعات كثيرة، وفي عدد من الدول. ولكن بقي أحمد الحوراني ابن القرية الطيب، الذي يحب أكل المشاوي، ويكره من لا يسايره في أكل الطعام. رحمه الله رحمة واسعة.
إلى كل واحد من هؤلاء الذين أثروا حياتي بطرق مختلفة. أقول لهم شكراً، وأنا لكم ممتن جداً، لأنكم جعلتم حياتي غنية ببساطتها وحلوها، وجعلتموني أرى الحياة من جانبها الحلو الجميل.
الرأي