قبل ثلاث سنوات، وحيث تشرفت مع نخبة من الأردنيين بلقاء جلالة الملك والاستماع الى قراره وقف العمل بملحقي الباقوره والغمر في معاهدة السلام، سمحت لنفسي أن أتجاوز إنصات السمع ( للإنصات ) إلى ما تقرؤه عيناي من تعابير وجه جلالته، كانت التعابير عديدة، أختصرها: صلابة الموقف والتحدي الوطني والقناعة السياسية بالأسباب والنتائج الموجبة للقرار.
قدرت حينها اننا دخلنا المعركة العملية الاولى في حربٍ قد تطول مع ثلاثي: اليمين الاسرائيلي المتطرف، واليمين الامريكي المتطرف، ثم اللوبي الصهيوني الظاهر والمتخفي الذي يعتمد ربط مصالح الطرفين السابقين.
وبعد ذلك بأشهر قليلة، لم أسمح لفضولي أن يسأل بعض الأصدقاء من مستشاري جلالته ،عن مضامين الحوار مع جاريد كوشنير وما حمل بجعبته خلافاً لما يرشح من الإعلام ( مع يقيني بمهنية المستشارين العالية التي لن تسمح أصلاً أن يرشح شيءٌ غير مسموح به ) ولكني وعندما كنت أنصت مرةً أخرى لجلالة الملك ينطق باللاءات الثلاث حول التوطين والوطن البديل وحول القدس، أيقنت أن كوشنير عاد يجر ذيل الهزيمة ، ففهمت حينها أن المعركة الثانية بدأت، وأما ( المناوشات ) ما بين المعركتين وما قبلهما وما بعدهما بكل انواع الضغوط وخاصة الاقتصادية ، المباشرة وغير المباشرة، فقد واجه الشعب الأردني وقيادته نتائجها الصعبة بالصبر، والتمسك بالعدالة والشرعية والقناعة المطلقة بحتمية انتصار الحق على الباطل.
معركة التحدي الثالثة كانت مع عهد غطرسة رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق نتنياهو، وقد أدارها جلالة الملك بحنكة استراتيجية وسياسية فائقة، وصلابةٍ وثبات موقفٍ كان صداه لدى الرأي العام الاردني والفلسطيني والعربي ايجابياً، وهذا لم يعجب الأطراف المواجهة لنا في هذه الحرب، فبدأ التفكير بإدارة حربهم بطريقة أخرى، خاصة مع وصول صديقٍ للأردن وقيادته إلى إدارة البيت الأبيض.
وهكذا، فكر اللوبي الصهيوني أن يحول معاركه وينقلها داخل الاْردن، مستغلاً وضعاً اقتصادياً يعاني منه الأردن ( ربما أكثر من غيره في المنطقة بحكم ندرة موارده الطبيعية) ، وهو الوضع الذي زادت قسوته بعد استيراد سلبيات الأزمة الاقتصادية لعام 2008، ولم تنتهِ بمفاعيل ( الخريف العربي ) وتبعاته القاسية على الأردن وتوابع مفاعيل ازمة كورونا، والتي باتت واضحة للقاصي والداني.
بدأت تلك المعركة الثالثة (( وأهم أدواتها نتاج تطور تكنولوجيا المعلومات)) بتسريب حيثيات عنوانها : ( الأردن يسير نحو الإنهيار ) ، ثم تلا ذلك ( مشروع فتنة ) واجهها جلالته بحكمة فتلاشت تبعاتها، وحيث كانت زيارة جلالة الملك الى الولايات المتحدة في تموز الماضي تمثل فتح صفحةٍ سياسيةٍ جديدةٍ مهمةٍ ليس للاردن فقط، وإنما للتعاملات قضايا منطقتنا على جبهات فلسطين، وبعض الدول الشقيقة حولنا، وهنا تحديداً ، كانت ضربةً قويةً للتحالف المعادي لنا في هذه الحرب الصامتة.
النموذج الجديد الذي يخطط له وينفذه جلالة الملك مع بعض أشقائه لمعادلة تعاون إقليمي من نوعٍ جديد، يجمع تدريجياً مصر والعراق وسيمتد إلى لبنان وسوريا قريباً، بات يزعج أطراف الحرب، خاصة وأنه وبالتوازي السياسي أقنع أغلبية العالم والبيت الأبيض بحتمية حل الدولتين لأزمة جمود عملية السلام الفلسطيني الاسرائيلي، صيانةً للأمن والسلم الدوليين.
في خضم التخبط وبدء خسارات اليمين المتطرف، بدأ الأطراف الثلاثة معركةً جديدة على جبهتين: الأولى محاولة التشويش على علاقة القيادة الأردنية الصلبة مع الشعب، والتي أثبتت اعتزاز الأردنيين وثقتهم بالقيادة الهاشمية، من خلال تقارير تحاول المساس بمصداقية القيادة، وفي هذا استغلالٌ دنيء للظروف الاقتصادية التي يعاني منها الاردن، والتي اشرت اليها سابقاً، وعمرها قد يمتد الى فعاليات التعامل مع احداث الحادي عشر من ايلول 2001، وغزو العراق بعد ذلك بعامين.
أما الجبهة الثانية، وبالتزامن، فهي محاولة التحدي المتكرر لـ ( اللاء ) الثالثة لجلالة الملك حول أن القدس والأقصى ( خطٌ أحمر ).
فإجراءات القيادة الاسرائيلية الحالية ( الوريث اليميني الفوضوي لنتنياهو ) ليست فقط لأغراض سياسية داخلية، لكنها أيضاً رسالة تحدي لعمان وواشنطن ، وغالبية المجتمع الدولي ، ومحاولة خلق حقائق جديدة لإجبار أي جهودٍ دوليةٍ تهدف إلى إعادة الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي الى استئناف مفاوضات السلام ، أن يتعامل مع مستجدات على الارض (( كلها منافيةً للشرعية الدولية )).
المثقفون في الأردن والحمد لله يعونَ تماماً (( موضوعاً وتوقيتاً )) أهداف الحملة على القيادة الأردنية، وربما أنه قد آن الأوان لمن لا يعلم أن يعيد القراءة جيداً ليدرك طبيعة العلاقة بين الشعب الاردني ومظلته الهاشمية: مبدأً وتاريخاً ، ووفاءً، وقناعة سياسية موضوعية. والمعارك لن تزيدنا إلا صلابةً.