مركز دراسات الوحدة العربية
علي الزعتري
07-10-2021 11:02 AM
بدون إمعانٍ كثيرٍ بلكنةِ اللسان ينشرحُ القلبُ لسماعِ الحرفِ العربي و يظهر ذلك كلما ابتعدنا عن بلادنا، و كأننا نلجأُ عند سماعه لمأمنٍ من غُربة. و كثيرٌ منا ينعمُ بلغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ، ويمتعضُ عند سماعها مُشوهةَ المخارج، وفي بلاده الامتعاض أعظم. نفوسنا تميلُ للعربية و للعروبةِ في السراء بل و حين نغضبُ من عروبتنا في الضراء. غضبنا هو غضبُ الوالد على الولدِ يحملُ خوفاً و رجاءً ولا يحملُ ضغينةً و حقداً. كلنا يريدُ من هذه الصِفةِ العربية التي وُلدنا بها أن تسودنا من محيطٍ لخليجٍ تحت رايةٍ واحدة. لكنها أُمنيةٌ لا تتحقق، وعلينا أن نكونَ واقعيين بقبول الرايات والصفات و اللهجات المختلفة وما تتميز به الأوطان، كُلٍّ فخورٌ بما عنده، و أن نعتبرها أرصدةَ مستقبلٍ لا عواملَ تفرقةٍ. نريدها واحدةً وتأبى إلا أن تكون آحاداً لأن حُلُمُ الوحدة العربية، من فرطِ التكلم عنها ومحاولةِ تحقيقها، تحول بعد فشلها هزلاً و عداوةً، و بالتالي انحفرت في العقول والمشاعر أولوية الفردية الوطنية على وطنيةِ الجماعة. فهل ننساهُ هذا الحلم إن خاننا الاندفاع دون التبصر و فقر الممارسة التي قادت للكبوات التي خيبت الآمال و التي تحولت ملامةً و عداوات؟ لن ننساه. و لكن كيف نذكره و كيف نحييه و كيف نؤسسه؟ كيف نُنهِضُهُ على الأُسسِ الصحيحة الواقعية بنيفٍ وعشرين علماً تتكامل من دون أن تفقد خصائصها؟
هذا هو مربط الفرس. و هو مربطٌ ليس مستحيلاً و قيلَ عنه و ما له و ما عليه و سيُقالُ مِراراً. لكن تحويلهُ خطواتٍ عملية هو المراد و إن كانت الخطوات ترتطم بالفردية عند كل محاولة فتتراجع.
على الأقل، دراسةَ ما فات و تحليلَ ما يصير و استشراف الآتي مع خلقِ ترابطٍ بين الباحث و التقني و السياسي، هو ما يجبُ أن يحصل لكي نُبْقِي و نُنَمِّي فينا فوائد التكامل العربي الذي قد يقود للوحدة. وإن لم يقد فهو على أقل تقدير قد يحافظ على مكونات التكامل وأملِ انبعاثها مجدداً. دورةُ البحث و الدرس و الربط مع المؤسسات الحكومية و مع مؤسسات العلم العليا ومنظمات العمل المدني هي دورةٌ هامةٌ لا ينبغي أن تتوقف عن التفاعل. و هي دورةٌ برعَ بها الغرب و الشرق الذين يُحيلونَ الأحلام لأفكار و الأفكار لأعمال و الأعمال لبناء الأوطان.
لكن واقع العالم العربي عموماً فقيرٌ فيما يخص التأليف و القراءة و البحثَ و النشرَ العربي و قد عَلَّلَ إتحاد الناشرين العرب الأسباب بدراسةٍ نشرها حديثاً. و التشابك البناء بين مؤسسة التعليم و صانعي السياسة و المنفذين، مع وجود الاستثناءات، ليس قوياً. وأساسيات التشبيك حريةٌ في القولِ وفضاءٌ رحب لا يرفض الاختلاف. لذلك نراها تخفتُ و تضعف سُبلِ التحاور الذي يتبادل المعلومة بكل جوانبها دون حساسيات. و بسياقِ القول، ندرة المنشورات والكتابات الجدية باتت تُفاقمُ من عزل القارئ الجاد، و يترافق هذا مع تراجع دور المراكز البحثية تحت وطأة استدارة المجتمع ليس فقط للأسهلِ والأقل عناءً لاكتساب المعرفة و لكن تحت وطأة انصراف المؤسسات الحاكمة عن الدور التشاوري الشمولي لرؤية مختلف وجهات النظر و تَبَنِّي التفرد حيث أساس بناء القرار ليس دائماً القاعدة العلمية البحثية. و أي معرفة بات ينشدها الناس؟ إنها معرفة "الإنستا" السريعة التي تأتي بهمسات الأصابع و تذهب سريعاً كذلك. سيقول القارئ أن الأمر لا يخلو من ومضاتٍ تشع هنا وهناك تبحث و تدرس و تنشر و تحاور و تتشابك مع صانع قرار. و هذا صحيح، لكنها ومضاتٌ تُضيئُ بينما أنواراً تخبو. والأصحُ هو سطوعٌ شموليٌ متتالي و متعاونٌ لا يسمحُ بخفوت مؤسسات العلم و يطوع "معرفة الإنستا" لخدمة المعرفة الأعمق و يبني المزيد. أنا لم أسمع عن اتحادٍ أو مؤتمرٍ لمراكز البحث العربية عُقِدَ لمناقشة أوضاعها و تعاونها لكنها بلا شك ستكون مبادرةً طيبةً لو حصلت ولو تجاوزت خلافات عقيدةِ كل مركزٍ وتوجهاته السياسية.
بالطبع نسعدُ لتعاونُ كل مؤسسةٍ بحثيةٍ عربيةٍ مع صنوانها حتى لو لو لم يكن الحُلُمَ العربي من أهدافها المباشرة و اقتصر عملها لإحياء هدفها الخاص، لكن علومها الجادة لا بد من أن تُحيي في القارئ هذا الحلم العربي من خلال المعرفة التي تنشرها. و نأسى أسىً شديداً حين تُهَدَّدَ مؤسسةٌ بوزنِ و عطاءِ "مركز دراسات الوحدة العربية" بالتوقف عن العمل المشرِّف الذي اضطلعت به لسنواتٍ طويلة.
يمر "مركز دراسات الوحدة العربية" بأحلكِ الظروف هذه الأشهر حيث يُعاني مثل كل المؤسسات التي مقرها لبنان من الوضع المالي و العملياتي الصعب من انقطاع و تدهور التمويل جراء انهيار أسعار الصرف وارتفاع كلف الكهرباء و المحروقات. لكنه يُعاني إضافةً لتهديدِ ذبولِ الحلم عند مناصريه و أعضاءه نتيجةَ ما حصل في السنوات الأخيرة العاصفة التي عاثت في البلاد و العباد خراباً فأصبح المنادي بالوحدة العربية صنواً للمنادي بالشتيمة. تفرقت عن المركز التفافة الحجج الداعمة لمبادئه أمام هجمةِ الفردية و غزوةِ الإقليمية، و تكاد القامات التي تحيطه محبةً و دعماً أن تَنْفَضَّ عنه قسراً لا اختياراً. الكثرةُ تغلب الشجاعة. و لكن المركز لا يزال يناضل بالتدبير و التدوير ليبقى منارةَ بحثٍ و نشرِ علمٍ و جسر معارفَ جادةً بناءةً محايدةً إلا من الحلم العربي. نقلاً عن موقعه، فقد "أصدر المركز حتى الآن ما يقرب من ألف كتاب، فضلاً عن أكثر من 487 عدداً من مجلته الشهرية "المستقبل العربي"، وعشرات الأعداد من المجلات الفصلية العلمية المتخصصة، كما نظم المركز عشرات الندوات والمؤتمرات حول قضايا الأمة العربية وعلاقاتها الإقليمية والدولية. وتنطلق أهداف المركز من العناصر الستة للمشروع النهضوي العربي، وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري."
إن دعم المركز واجبٌ عربيٌ شريفٌ و أصيلٌ يجب أن تتنادى له المؤسسات العربية و الأفراد. فمناقبه العلمية لا تُحصى و دوره الحاضر والمستقبلي لا يجب أن يُنسى كمركزٍ محايدٍ و رصينٍ و كمقرٍ للتبادل العلمي بين المؤسسات العربية بأنواعها و بين الأفرادِ عرباً و أجانب من خارج البلاد العربية. إن دورهُ في هذا الوقتِ من التقارب العربي و بدايةِ تصفية الأجواء و ارتكاءها عروبياً كمبدأ تعاون على الأقل في المشرق العربي لهو محوريٌ و منطقيٌ. و أنني أدعو المركز و محبيه لوقفةٍ مشتركةٍ قريبة لنضمن له بقاءً و مساهمةً مستمرةً و معطاءةً قادمةً. آمل أن لا تخبو منارة المركز فهو أمانةٌ بأعناقنا نحن الذين نؤمن بالعروبة والعرب مبدأ وجود وأمةً جامعة لعديد الألسن و القوميات التي تعتز بانتمائها لهذا الوطن.