الأيدي الخضراء .. عطاء يانع لا ينضب
د. أميرة يوسف ظاهر
04-10-2021 01:52 AM
(كل عام وأنتم بألف ألف خير معلمينا)
يصادف يوم الثلاثاء عيد المعلم العالمي؛ تكريمًا للذين تبوأوا أشرف مهنة عرفتها البشرية على الإطلاق، وقد وافقت معظم دول العالم على اعتبار يوم (5 تشرين أول) يوما عالميا للمعلم، وفي كل عام نقف في مثل هذا اليوم لنكرم المعلم والمعلمة في كافة ميادين العلم والتعلم، ونتذكر الذين تقاعدوا أو غادرونا إلى الدار الأخرى. ولا يسعنا إلا أن نقف وقفة إجلال ومهابة معتزين متفاخرين بهم؛ فقد أعطوا جل ما لديهم وما كفت أيديهم الخضراء عن العطاء، فقد خضبّوا أرضك يا وطني بما قدموه فصارت ميادينك فسيحة المرامي.. وكانوا مثلًا وقدوة لجيلٍ من العلماء والمعلمين الجدد ولكافة المهن، فليس هناك أحدًا لم يذهب لمعلمٍ أو معلمة وينهل على يديه علمًا أو عملًا ويتأثر به.
والمعلم يد خضراء أنبتت زروع الوطن، وسقت أجياله علما وخبرات ومهارات تمكنوا بها من تبوء مراكز شتى في كافة المجالات والصعد، وأزهرت نموا وتطورا ملموسا، فأثمرت ساسة وسياسيين وصناع قرار واقتصاديين وأدباء وعلماء وصناع وبناة أمة تمخض عنهم: أطباء يعالجون المرضى، ومهندسين يهندسون مجالات عدة مبدعين على صعيد العمارة والعلوم والتصنيع وغيرها، وعلماء متنوعين في تخصصاتهم، وقضاة ثقات يحقون الحق والعدل، ومحامين وصيادلة ومزارعين ومصممين وكتاب وأدباء وكافة أبناء الوطن..
فالمعلم يبني العقول ويهندس الخبرات ويعالج الضعف ويصنع القوة، ويزرع الأخلاق ويشحذ الهمم وينمي المهارات، ويَسوق قصص النجاح ويسوس الأجيال، ويغرس المبادئ والقيم، وينتج الفكر، ويقود الإبداع ويطلق الابتكار، ويخطط للحياة المنتجة ... فهو ليس شخصًا عاديًا في تاريخ الأمم وعلى مر العصور. وهو سلسبيل العطاء الذي لا ينضب. هذا هو معلمنا الذي نقف لنكرمه ونتكرم به.
وقد ألفنا يستحق الأكثر لعطائه الأوفر في مجتمعاتنا التي لم تعط ما يتناسب مع همته وعزيمته، فقد تجاوزه طلابه وبقي صامدًا مُهابًا، ومعطاءً ومُؤثرًا دون كلل أو ملل، واستمر متراجعًا في حقوقه، ومتقدمًا في واجباته، كأم وأب لكل الذين يتركون جاذبية أسرتهم في كل صباح متثاقلين؛ ليلتقوا ابتسامته وحنانه ويشعرون في قرارة أعماقهم أن هناك من ينتظرهم ليقيم أود عقولهم، ويرتقي بأخلاقهم، ويساندهم مفعما بالعزيمة والايمان بدوره الكبير.
فها هي مجتمعاتنا تنتقل إلى عصر الانفتاح والعولمة والثورات الرقمية بمستوياتها المختلفة من التعلم وغيرها في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والجائحة التي أربكت العالم بأسره، بينما بقي المعلم صامدًا متاحًا وجاهزًا لأي دور. تغيرت المناهج في مستواها وقيم محتوياتها، ولم يتغير هذا الجهبذ الألمعي، لم يثنه قصور هنا وتخاذل هناك، وحتى تراجع دوره الاجتماعي ومستوى الاحترام الذي كان يحظى به في العقود الأخيرة، إذ صار يقف أمام طلابه في المحاكم، بينما يتم الأخذ بالمستويات الاجتماعية لباقي المهن ممن كانوا طلابه وتلاميذه، وعندما كانت المؤسسات والإدارات تقفل أعمالها لأسباب الجائحة التي عصفت بالعالم، كان المعلم ينافح في منزله مقدمًا ما لديه، وبالإمكانيات التي توفرت أو التي يجب أن تتوفر لديه ومن إمكاناته الخاصة، ولم نسمعه شاكيًا أو باكيًا، لا بل كان مجتهدًا ومُبادرًا، وقد شهدت مملكتنا الحبيبة تقدمًا في مستويات التعلم عن بعد دون أية مقدمات، وذلك لكون المعلم الأردني مختلفًا في عطائه ورباطة جأشه، بينما ارتفع أنين الشكوى من كافة القطاعات والمهن، إلا المعلم الذي بقي ممسكًا على الزناد في معركة الحياة وخلال كافة الظروف لأن الرسالة التي يؤديها مقدسة وغير قابلة للتوقف أو التراجع.
إن المعلم الأردني في المدارس والكليات والجامعات وحتى في الحلقات الخاصة والتعليم الخاص والخصوصي كان مميزًا ومتميزًا، وقد أثبت وجوده في كافة الميادين في الداخل والخارج، وقد شهد أشقائنا بإمكانات المعلم الأردني، ودوره في تحسين مخرجات التعليم لديهم، وشكل غيابه مشكلة في نوع المخرج ومستوى التعليم، فقد أثبت إخلاصه وثباته وحفاظه على طلبته كأبناء وبنات، وتناول العلم كوسيلة للأخذ بيد الجيل، في الأوطان التي عمل بها، واعتبر الإخلاص في العمل عباده، وأخذ بالحديث النبوي في كون التعليم مهنة وعملا فأتقنه، لينال رضا الله، ورضا النفس وحتى رضا الأوطان وتقدمها، فالتعليم في نظره رسالة وتحقيقها على الشكل الأمثل أمانة وعباده.
لذلك ننطلق في هذا اليوم محملين بعبق معلمينا الذين علمونا وربونا، وكان لهم دورًا في تحديد هويتنا ومسارات حياتنا، نقيم في وجداننا مهرجانات الفرح بيومهم، وترقص قلوبنا على وقع عطائهم الذي قُدم لكل جيل من الطلبة في كل المراحل والقطاعات، فصنعوا أبناء وطن.