البضائع في السوق الأردنية, ولجهة حركة أسعارها, على ثلاثة أنواع: الأول هو الذي يرخص سعره في استمرار حتى أصبح دون قيمته, أو سعره الطبيعي, بأكثر مما تقره شريعة السوق الحرة, ألا وهو قوة العمل, التي يسمى سعرها أجرا أو راتبا; والثاني هو أسطوانة الغاز التي لم يتحرك سعرها صعودا أو هبوطا; والثالث هو سائر البضائع التي باستهلاكها يلبي الشعب حاجاته الأساسية من مأكل وملبس ومسكن وعلاج وتعليم,.. والتي تزداد وتتسارع غلاء. وعما قريب لن يبقى في السوق إلا نوعان: الأول وهو الذي يمثِّل الرخص المتزايد المتسارع; والثالث وهو الذي يمثِّل الغلاء المتزايد المتسارع; وليس بالأمر المستغلق على الفهم أن ذاك الرخص من هذا الغلاء, وأن هذا الغلاء من ذاك الرخص.
"إلاَّ أسطوانة الغاز!"; هذا هو "الشعار الغازي", الذي به زينت الحكومة, وزركشت, برنامجها الجديد (البرنامج الوطني للإصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي) لتحرير مزيد من طاقة الغلاء العام والشامل في السنوات الثلاث المقبلة, فالقوت اليومي للمواطن العادي, وعلى ما ترى الحكومة, من خلال ميكروسكوبها الاقتصادي, ما زال فيه من الرخص ما يسمح بإنتاج مزيد من الغلاء!
اللعبة أصبحت مملة, ومستفزة لمشاعر المواطنين العاديين, فكلما عزمت الحكومة على إطلاق حملة جديدة من الغلاء العام (بدعوى خفض عجز الموازنة العامة ونسبة الدين العام, ورفع مستوى عيش المواطن وتحسين نوعية حياته, وخفض نسب البطالة والفقر, وحماية الفئات الفقيرة, وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى, وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية, وحفز وتشجيع الاستثمار) أشاعت الخبر السيئ إياه, وهو أنها تتجه, هذه المرة, إلى تحرير سعر أسطوانة الغاز, أي ترك هذا السعر يتحرك صعودا, فإذا تحول ذلك العزم إلى قرار, أو برنامج, أعلنت الحكومة الخبر الجيد أو السار, وهو الإبقاء على سعر الأسطوانة ثابتا; ولكن إلى حين, فسعر الأسطوانة يجب أن يظل سيفا مسلطا على رؤوس وأعناق المواطنين.
في برنامجها, الذي يتوعد المواطن بجهنم عاجلة وصولا إلى الجنة الآجلة, تخاطب الحكومة شعبها قائلة: ضحوا أكثر, وادعموا برنامجي لتحرير مزيد من الغلاء العام, إذا ما أردتم أن تظلوا تنعمون بعدم تحرير أسطوانة الغاز!
وعلى المواطن العادي أن يتقبل زيادة الضريبة على البنزين والسجائر والبن, وعلى سلع (وخدمات) أخرى, إذا ما أراد استمرار دعم الحكومة لثبات سعر الأسطوانة; وقد نمضي قدما في طريق التضحية حتى نضحي بالأسطوانة نفسها, فيتنازل المواطن العادي عن الأسطوانة للحكومة; لأن ليس لديه ما يطهوه بنار الغاز!
إنه الخداع بعينه أن تقرر الحكومة الاستمرار في تثبيت سعر أسطوانة الغاز, فهذا التثبيت هو رفع فعلي لسعر الأسطوانة; لأن تضاؤل المحتوى السلعي للأجر أو الراتب, بسبب الغلاء العام, يجعل سعر أسطوانة الغاز أكثر غلاء!
كلمة الحكومة في أمر الضرائب الجديدة إنما هي كلمة حق يراد بها باطل, فالمدمنون على التدخين, مثلا, ولكونهم مدمنين, يفضلون مزيدا من الجوع, ومن العجز في موازناتهم العائلية, والعجزعن تلبية حاجاتهم الأولية والأساسية, على الإضراب عن التدخين, أو خفض استهلاكهم اليومي من السجائر.
حتى الآباء والأمهات لن يشذوا عن هذا الالتزام القوي, ويمكن, بالتالي, أن يحولوا إلى سجائر بعضا من مال الحياة, أي المال الذي يجب أن ينفق للحصول على القوت اليومي لأطفالهم وأبنائهم.
ولا شك في أن الحكومة تعلم ذلك علم اليقين; ومع ذلك قررت ضرب ضرائب جديدة على مواطنيها, بدعوى أن بعضا من الغلاء, كغلاء أسعار السجائر والتبغ ومنتجاته, يمكن أن يقيها شر الفقر المالي, والمتأتي بعضه من تنازلها عن ضرائب ورسوم جمركية كانت مفروضة على نحو 2000 سلعة إسرائيلية.
والقرار الضريبي الجديد, والذي تفوح منه رائحة العداء الزائف للتدخين, والحقيقي للشعب المدخن, إنما ينم عن ذكاء سياسي حكومي, فالنقمة الشديدة للمكتوين بنار الغلاء العام لن تكون على الحكومة والطواغيت من التجار, وإنما على المدخنين من معيلي أسرهم, فهؤلاء, باستمرارهم في تدخين السجائر الغالية, هم وحدهم المسؤولون عن جوع وفقر عائلاتهم, أي عن جوع وفقر الشعب في آخر المطاف!
والقرار المفعم بالروح الانتهازية, هو أجمل لبوس يمكن أن ترتديه الحكومة في زمن الغلاء, فهو يلبسها لبوس الحرص على صحة مواطنيها, وعلى نظافة ونقاوة الهواء, وعلى صحة البيئة على وجه العموم; وقد يقع موقعا حسنا من نفوس كثير من المواطنين الذين يميلون إلى الأخذ بفتاوى دينية تحرم التدخين, أو تجعله في حكم المكروه دينيا.
ترفيها عن المواطن المختنق بالضرائب وكثرتها وتكاثرها, أقول إن للضريبة معاني أخرى, نقف على بعضها في جمل من قبيل "ترك ضريبة على جسمه", أي أثر الضرب; فالضرائب, عندنا, تترك ضريبة على أجسامنا ونفوسنا; و"هذه ضريبته التي ضرب عليها", أي طبعه الذي طبع عليه; ولقد طبعت الحكومات عندنا على ضرب شعبها بضرائب هي كضريبة السيف, أي حده, وعلى تطوير النظام الضريبي بما يجعل جباة الضرائب كمثل آكلي لحوم البشر, أي كمثل بوكاسا الذي أحبط سعي ذوي النفوس الكبيرة لجعله نباتيا.0
jawad.bashiti@alarabalyawm.net
العرب اليوم