قبل اعوام مضت طرحت سؤالا عاما مفاده (ما الذي قدمته الامة العربية للحضارة البشرية خلال المئة عام المنصرمة !!؟؟) السؤال كان تحفيزيا وتعددت الاجابات ما بين جلد الذات والفخر بالماضي وأن الحضارة الحديثة بنيت على أكتاف الأمة الاسلامية في محاولة لاختزال فكرة دينية للبشرية جمعاء بالأمة عربية وهذه مفارقة ذهنية في العقل العربي كانت تستدعي المعالجة إلا أنني لم أتوقع أبدا أن يلتقط الجانب الاسرائيلي هذا السؤال ليعيد طرحه رئيس أحد مراكز الدراسات الاستراتيجية في تل أبيب من باب ازدراء الشخصية العربية واغداقا في التحطيم النفسي تحت بند الواقعية لما سمي ربيعا عربيا وتبشيرا بالحضارة الاسرائيلية المستحدثة على اطلال فلسطين بوصفها المشروع الأحق بقيادة الاقليم..
البارحة كنت اشاهد افتتاح اكسبو دبي.. اعدت مشاهد الافتتاح عدة مرات وفي كل مرة أصاب بدهشة الاطفال.. ما تقدمه دبي اليوم يتجاوز نطاق تلك الاضواء التي تخطف الألباب والابصار وتذهب بعيدا بما يتجاوز صدى الصوت الذي انتجته الصحراء لتتكشف الحكاية عن شيء مختلف تماما لا يليق معها تسطيح الحالة بفهم سياسي او اقتصادي او مستوى الانفاق للحدث الأهم على مستوى الشرق الاوسط لا بل والعالم اجمع منذ اعلان الاغلاق العالمي العام بسبب جائحة كورونا فثمة أمر ما وهذا يستحق التأمل والقراءة بعين الرضا ان شئتم ولربما بعين الفكرة او حتى التاريخ..
إعادة الاعتبار للمكون العربي.. لعل هذه تكون أهم نقطة في المشهد العالمي الذي انتجته دبي الذي تعجز عنه دول عظمى ولربما شاهد البعض العلم الاسرائيلي يرفرف على ارض عربية جديدة نعم هذا صحيح لكن ذلك كان إجابة استدراكية محل جواب لسؤال استلقفه مني مدير مركز دراسات استراتيجية اسرائيلي يتوجب عليه الان ان يترجمه هو وغيره ممن ازدرى الامة لنقطة تحول وتأثير واسقاط فلسفي حضاري في إعلام الأمم تجاه أمتنا التي قد تمرض لكنها لا تموت ويمكنها ان تعود للواجهة بقوة حضارية وفلسفية استثنائية وبما يغير من التصورات الذهنية السلبية في الرأي العام العالمي عن الشخصية العربية وكذلك الحال لدى الرأي العام الاسرائيلي وبما يفضي حتى لاعادة الحسابات السياسية المستقبلية بشأن بقاء الاحتلال للارض العربية القادرة على انتاج الحضارة..
المسألة الثانية ذلك أن الحضارة العربية قابلة للعولمة والانسجام والتناغم مع غيرها من الحضارات وهي لا تشكل حالة استئصالية صدامية مع الغير ومن ثم استطاع اكسبو دبي ترجمة هذه الالتقاطة عبر كم هائل من منظومة الانسجام الحضاري مع الغير بتكنولوجيا ورموز ورسوم وموسيقى ولحن وكلمات واداء وتصميم مشهد وادارة ذلك كله بتناغم عجيب يستطيع الانسان أيا كان فصله وجنسه من الاحساس به ولو لم يفهمه وذلك كله قادر على هز وجدان المرء بطريقة تنبهه أن أصل القضية وقيمتها الوجودية كلها تدور حول كلمة واحدة هي (الانسان) وتعيد التذكير بأن القيمة الجوهرية أننا كلنا بشر وكل فرد فينا مهم وعزيز وكائن نادر الوجود لن يتكرر وهذا هو أصل الفكرة الإلهية بالتكريم لبني آدم وعليه فأصل العلاقة هي التكامل لا العداء..
المسألة الثالثة وهي رسالة للداخل العربي بأكثر مما هي للاخرين ذلك أننا قادرون على المحافظة على الهوية العربية والقيم الاسلامية لا بل وجعلها قيمة انسانية للجميع دون ان نذوب في خضم التطور والانفتاح والتقدم للعالمية وأن حفظ التراث يكون بعولمته وتأثيره ومدى قدرته على الانسجام والتكامل مع الغير لا السعي لمواجهة هذا الغير، ووضع حواجز الوهم والتصورات الذهنية السلبية دون انخراط في التجربة ونمطية اصدار الاحكام المسبقة بسبب مواقف مؤدلجة تقيد القدرة على التكيف الحضاري وتحول دون التعدد والتنوع الحضاري المثري في اطار الوحدة..
دبي اليوم وهي تمثل حاضرة التراث وعينها على المستقبل باتت تقدم شيئا استثنائيا فريدا نوعا وكما وكيفا يستحق الدراسة وتوصل رسالة عجيبة ملهمة تستحق الاحترام والتعقب والمحاكاة ونأمل من العقول الاردنية التي ساهمت في انتاج هذه الرواية الحضارية الانسانية الرائعة ان تحاول وتعمل بصدق لنقل التجربة للاردن..