لنقنع أنه ليس هناك من حُبٍ سياسيٍ مفقود بين الأردن وسوريا، وأن هواجس الشك بينهما ما هي إلا نمطاً للعلاقة المحكومةِ بحدودٍ مشتركة ومرتبطةً بالتاريخ الحديث للبلدين الذي شهد العثرات كما شهد التوافقات. علاقةٌ تؤججها خلفيات سياسة وتوجه البلدين، وتخفف من حدتها ولو على وهن ارتباطات الجيرة وامتدادات العشيرة والنسب وبعض المصالح وقدرة الطرفين ضبط النفس. كانت وتبقى علاقة يشوبها ارتيابٌ وتقديرٌ مستمرٌ للمواقفِ تحسباً للخطر الذي بات عند الطرفين نوعا من الفطرة. عناصر هذه العلاقة دائمة الحذر لا تُعَّدُ ولا تحصى ومن غير المجدي تفصيلها لأن ذلك من شأنه أن يُعقد الأمر. لكن بباطن الوعي عند الطرفين هناك أمنيةٌ و إن كانت منكفئةٌ عن القول الدبلوماسي الصريح، وبعضَهُم جاهر بها فَعُدَّت المجاهرة وقاحةً، لكنها تعيش بخاطرِ السياسي، وهي حُلُمُ تشكيل القرار عند الآخر، بمعنى تدوير سياسةِ كل واحد بما يجعله أسير مطلب الثاني. وهذا لا يحصل في العالم إلا بهيمنةِ مركزٍ على فرعٍ هيمنةً كاملة. وهو ما لن يكون بين الأردن وسوريا. كلا العاصمتان مركزٌ مهمٌ و فاعلٌ ومستقلٌ ذو سيادة، فلن تذوبَ دمشق أو عمَّان بالأُخرى. هذا هو الواقع. فلنقبله، ولنتعايش معه، مع التيسير في المعاملات بين الطرفين.
لذلك لن يُفيدَ، حسبما أُقدِّر، هذا التحليل المشاعَ اليوم عن رغبةِ الأردن برؤيةِ تحسنٍ بسلوكِ سوريا. هذا كلامٌ يترددُ كأنه شرطُ تحسينُ العلاقات. وأستطيعُ أن أجزمَ أن نفس المقالة تُقالُ بسوريا عن الرغبة بتحسين سلوك الأردن. ولا أعتقدُ أن أيَّاً من القائلين بهذا في الجانبين لا يؤمن بما يقول فهي الرغبة الأساس وهي غير واقعية لحد كبير. لكن التصريح بالقول بجعل تحسينَ السلوك شرطاً يحملُ تقليلاً من قيمةِ الطرف الآخر ونوعاً من التعالي. وهو من القول الجارح الذي ابتدأته المتعجرفة مادلين أولبرايت عندما كانت تقول بشأن خصومها أنها تنظر لأفعالهم لا تصريحاتهم ملمحةً بصراحة أنهم لا يستحقون الثقة. ونحن نريد أن تسود بين البلدين علاقة تعايش إيجابية لا تبدأ باجتراح الجروح.
لن يجد الأردن وسوريا أنه من المجدي محاولة تطويع سلوك الطرف الآخر وإعادته للصواب الذي يتخيله ويتمناه ويريده كل طرف. لكن المجدي هو التوافق على الحد المقبول من المنافع الثنائية مع تثبيتِ نقاطِ الخلاف على وضعها دون إعطائها وقوداً لتلتهب، والعمل لوصول البلدين لتفاهمٍ بشأن نقاط الخلاف مع مرور الوقت. فالمهم أن تعود المياه لمجاريها حرفياً!
ليس صعباً على البلدين كما نرى بعد اللقاءات الوزارية العسكرية قبل المدنية إحياء الاتفاقات العمليةٍ التقنيةِ المحتوى في شؤون الاقتصاد والموارد الطبيعية والتنمية. ولن يكون صعباً دفع الشؤون الحساسة للطرفين للجان مشتركة تعمل بهدوء من غير صخب لحلها والتوافق بخصوصها. الإعمار الاقتصادي وتبادل المنافع هو اليوم أولوية. تتلوه بهدوء عودة اللاجئين الآمنة وصفاء الحدود من المهددات.
أما ما هو أكبر من ذلك، فليس من مقالٍ يقال إلا أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا. لهذا لندعَ الشرق والغرب يتجادلان ولنركز على ما ينفع الأردنيين والسوريين على المدى الآني والمتوسط. ولنأمل أن يسكت الحديث الذي يُقللُ من قيمة الطرف الآخر وأن تُعظَّمَ قيمة الشراكة التي تنفع الناس ومستقبلهم.