مسار الاستغاثة المجهولة بقلب الجفر
عبدالرحيم العرجان
02-10-2021 12:44 PM
نداء مجهول لاستغاثة في قلب الجفر، الصحراء القاحلة والأصعب للحياة في أراضي المملكة قاطبة، تداولته وسائل الإعلام بعد مشاهدته عبر جوجل إيرث Google Earth ليخلق الحيرة والتساؤل عما كان هناك!!؟
حملنا النداء لنشد الرحال ونعقد العزم للوصول إليه بعد استفاضة قائدي المسار من دراسته وتحديد موقعه حسب إشارة جوجل والوقت الأمثل والحالة الجوية المناسبة، وكان الأفضل أن تكون ليلاً مع اكتمال البدر حتى يضيء لنا طريقاً شبه مستوية، على مدى الرحلة التي استمرت أربعة عشر ساعة مسيراً متواصلاً، وقد تخللها بعض الاستراحات لتجديد الطاقة واستجماع القوة.
اثنان وعشرون كيلو مترًا ما بين الشارع الرئيسي المتفرع من بلدة الجفر نحو مصنع الشيدية، بمسار خطٍ مستقيم نحو الشرق إلى نقطة الاستغاثة ومثلهم عودةً، لنبدأ خطواتنا مع الغروب وانخفاض درجات الحرارة المخزنة في الأرض والتي ستفقدها بعد بضعة ساعات ليصبح بعدها البرد القارص، والذي ستشعره بين العظام والمفاصل، مستقبلين مشرق القمر وضوءه لكي ينعكس خلفنا ظلنا دون الحاجة لاستخدام كشافات الرأس وبذلك يكون مستوى الرؤيا مفتوحًا نحو الأفق بوضوح النهار.
وما بين غروب الشمس وشروق البدر فُتحت قبة السماء لنحظى بمشاهدة ذراع المجرة "الجبار" العائد لمجموعتنا الشمسية، فهو الوقت الأمثل لذلك والذي استمر نصف ساعة من الدهشة والتحديق في السماء، ليكون المشهد مع استراحتنا على طرف السد الركامي المحاذي للقاع الأول والوحيد الذي ما زال فيه شيء من ماء الشتاء الممتد لبضعة كيلو مترات، حيث نبت حوله الغضا والرتم بكثافة، وزاد الأمر روعة انعكاس ضوء القمر وامتداد أشعته على صفحة الماء الخطر لوجود الطمي الذي سوف تعلق فيه مع أول خطوة.
لتبدأ بعد ذلك رحلتنا الحقيقية بعد أن قطعنا خمسة كيلو مترات على أرضٍ صلبة مغطاة بشظايا صوان صغيرة ونثر من الخبث البركاني، ولهذه الغاية يتوجب ارتداء حذاء نفاذ للهواء بنعلٍ عريض ويفضل أن يكون واسعًا بدرجة واحدة، كون القدم تتمدد مع طول المسافة الإجمالية التي بلغت أربعة وأربعين كيلو متر، مع ارتداء الجوارب الخاصة للمسير المكونة من طبقتين لتخفيف الاحتكاك المتواصل مع استخدام عصي الارتكاز لتوزيع الثقل بين اليدين والأرجل وللسلامة من التدعثر.
طريق طويل مستقيم دون تباين بالتضاريس، وقد حَددت ثبات العضلات العاملة دون أخرى وزاد صعوبته ارتفاع بسيط على مدى مسافة سبع عشرة كيلو لم نشاهد خلالها أي أثر للحياة الفطرية نهائياً، لا من طير أو حيوان أو نبات أو حتى حشرة إلا بشعابين في بداية الطريق وبعدهما انقطعت الحياة كلياً وكأنك دخلت غياهب المجهول إلا أن كشافات اضاءة مصنع الشيدية كانت الأنس لنا بجانب سكون المكان وعذريته، حتى لو أردت أن تشعل النار فأنك لن تجد ما تحرقه.
ومع انتصاف الليل وصلنا نقطة الهدف S.O.S STRANDED
وهي حروف كُتبت على الأرض بكشط الطبقة الصوانية بخط عرضه نصف متر وعمق عشرة سانتيمترات، وبمعدل عشرة أمتار لكل حرف، أي أنه احتاج لوقت طويل لفعل ذلك! وليس كما أشيع أنه صُف من الحجارة البيضاء، والهدف منها أن يتم مشاهدتها من الطائرة، في حال أن حالف كاتبوه الحظ، ومن مجرى الخط يبدو أنها كتبت منذ ثلاث سنوات لوجود ثلاث طبقات رسوبية تراكمت في خط الكتابة، وبعد تفحص المكان وجدنا فيه بقايا موقد نار و معلبات، الأمر الذي يثير الاستغراب والحيرة في مكان عرف بقساوته أو الوصول إليه، ومن إشارات الاستغاثة الجوية المتعارف عليها رسم مثلث أو إشعال ثلاث نقاط نار بشكل مثلث.
ومن هناك تبعد الحدود السعودية 42 كم نحو الشرق، و10 كم جنوبي الشركة الأردنية الهندية لصناعة الكيماويات التي تشاهد وهج اضاءتها بوضوح من النقطة، لنأخذ استراحتنا والتأمل بصمت في المكان وقصته التي ما زالت لغز مع أننا وصلنا إليها، لنعود أدراجنا إلى نفس الطريق الذي أتينا منه، ولكن بوتيرة أقلّ سرعة، كوننا استنفذنا طاقةً كبيرة بالذهاب والتي كانت بمعدل 5 كم في الساعة لتنخفض إلى 3.5 كم حتى نحافظ على قدرتنا ولا تُستنفذ قبل وصول نقطة النهاية بسلام، فأي تأخير سوف يكبدنا المسير تحت أشعة الشمس الحارة ولهيبها المنعكس أيضا من أرضها الصوانية القاتمة، آخذين بعين الاعتبار أن لا تطول استراحتنا حتى لا تبرد أجسادنا مع تمددنا على الأرض لإعادة انسياب الدم بشكل سليم في جميع الأطراف.
وما أن أشرقت الشمس حتى كنا قد وصلنا للسد الركامي متمعنين بهذا المشهد الذي يبشّر باقتراب نقطة النهاية بعد تعب طويلٍ، والذي احتاج إلى خمسة لترات ماء وسكريات وموالح للمحافظة على كفاءة الجسم بمسارٍ يتحمل استكشاف صعب غير قابل للخطأ معتمد على حنكة قائدي المسار في إدارة الوقت واختيار المشاركين من ذوي القدرات البدنية واللياقة العالية متحلين بروح الفريق.
والمرة الأولى التي زرت بها الجفر كانت عام 1996 عندما تم اختيار قاعها ليكون مكان اختبار لأسرع سيارة في العالم التي بلغت 1023 كم في الساعة الشبيهة بصاروخٍ مزودٍ بمحركين نفاثين، على أرض قاعها المائيّ الجاف الذي يعد أحد أكبر المسطحات المائية الموسمية في العالم، حيث يُغطي في بعض المواسم ما يقارب عشرين كم مربع، ومن هنا استنبط اسم المكان أي الأرضُ الواسعةُ.