النزاهة بين جمال الرؤى وانتهاك التوجهات
د. أميرة يوسف ظاهر
01-10-2021 11:50 AM
النزاهة ما بين الصافي من الرؤى والعكر من التوجهات، غدت كمظلة يتفيأ تحتها المتحدرون من رحم الخطايا حين يتساوى لديهم الوطن والسلع التي تباع وتشترى، وقت توحد الألوان لديهم في رمادية قاتمة فينهلون من الأعطيات والرشاوي، ويعبون من مقدراته وممتلكات أبنائه وتملأ حقوق الناس كروشهم دون وازع ورادع. فإذا كانت النزاهة عنوان كبير لمحاربة الفساد، فقد جُعلت غطاء ممنهج سمح لغراس من فاسدين تربوا في الحدائق الخلفية ذاتها وتوهموا، بل تعلموا أنها أوطانا تخصهم دون خلق الله، فاستطاعوا أن يجدوا منافذ للتحايل على المقدرات والإمكانيات.
وعندما أُريد من النزاهة أن تكون مؤسسة تحمل رسالة نطبق من خلالها قوانين لمزيد من الشفافية والمساءلة والإصلاح الوطني الممنهج الشامل، ابتعد الكثيرون من نخب سياسية واجتماعية واقتصادية عن ممارستها قولا وفعلا، فبات الجميع يتندرون بالمؤسسات التي ضمنت النزاهة والشفافية وعاثت في الأرض فسادا باسم الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد. وقد كان من المؤمل أن تندرج النزاهة بمضامين وقيم صادقة ضمن أعمال اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، وكان علينا أن نتحدث بذلك في مقالاتنا ومؤتمراتنا ولقاءاتنا بحيث تتصدر النزاهة أحاديثنا، وتصير جزءا من قيمنا وهدفا رئيسا يسود نتاج التطوير والتحديث، فإذا اختلت الشفافية والنزاهة في الأفراد والمؤسسات، فلن يكون للتحديث والتطوير أية قداسة.
لقد كان من المؤمل أن تضع المؤسسات العلمية في المدارس والجامعات نصب أعينها النزاهة كقيمة يتعلمها الطالب منذ سن الطفولة، وأن يتحقق هذا ضمن المحتوى المنهجي والتطبيق العملي، وأن تعمل الأسرة على تشجيع أبنائها على الحصول على مرادهم من خلال الاجتهاد دون أن يكون الغش وسيلة للنجاح والتفوق، وأن يأنف الطالب على أساليب التحايل للتسرب الذي يشجعه بعض الأهل دون التدبر في النتائج على الصعيد الأسري والوطني، فلقد آن الأوان لأن يتوقف كل موظف في موقعه عن استثماره للمصالح الخاصة وتجييش مجهوده لغير دوره المطلوب فعلا ونصا، وأن يتوقف عن ممارسة الأدوار الاجتماعية التي تفرض استقبال الأصدقاء والمحاسيب في المكاتب على حساب الانشغال بالدور المناط بهم في أهم المؤسسات التي تعمل على الارتقاء بالمجتمع. وفي المجال العدلي على المعنيين أن يقيموا عمل المحامين والقضاة فالفساد إن خرج من قاعات المحاكم وردهاتها يكون أكثر فتكا وخطورة، وقد وجدنا محامين يدافعون عن القاتل دون أي اعتبار لروح الضحية، وصار كسب قضية رشوة أو فساد ضربًا من الاستحسان والفهلوة، ولذلك صار المحامين الذين يبرؤون الفاسد هم سادة المجتمع ووجهاء الناس، وحتى وجدوا لأنفسهم طريقًا إلى المناصب التي يعتد بها للجم الفساد وهذا لا يتساوق وحامليها الذين خرجوا من رحم الفساد. وتوجه الكثير من مربي الأجيال إلى التكسب غير المشروع فيما يتعلق بالدروس الخصوصية التي تأتي نتيجة عدم الإشباع للتعلم الذي يحصل عليه الطالب على مقاعد الدراسة، والتي تفترض دائما تعليما دون المستوى، وقد ألف الناس هذا الشكل من الفساد حتى بات أمرا طبيعيا، وعلى القادة الميدانيين في قطاع التعليم أن يجدوا حلولا ناجعة لعمليات التسرب الجسدي والذهني للطلبة والمربين. وفي الأسرة يكون من اللازم والضروري أن يتناوب الآباء والأمهات على الأخذ بتربية أبناءهم على الصدق والفضيلة دون أي انشغال سلبي يؤدي إلى الدفع بهم للشارع وهذا طريق يجعل من الفساد مستشري بالجسد الأسري كالسرطان.
لقد آن الأوان لأن تعمل وزارات التوجيه كالتربية والتعليم والتنمية والداخلية والعدل والأوقاف على تقديم مشاريع ومناهج وتوجهات تطبيقية لغرس قيم النزاهة في الأجيال القادمة. ليغدو الأردن الذي لا يقل حظا عن غيره واحدا من الدول المتقدمة التي يرتفع فيها مستوى الفرد والتي تتصدر قائمة النزاهة والشفافية. فالنزاهة قيمة اجتماعية تشكل الأساس في الرقي الاقتصادي والسياسي، وهي التي جعلت من الدول التي احترمت هذه القيم الأقوى في كل الميادين.